محمد الرميحي

في منتصف التسعينات من القرن الماضي، وكان الصراع محتدما على أشده بين نظام صدام حسين الفاشي، وطيف من المعارضة العراقية بمختلف توجهاتها، نشطت الأخيرة بأطيافها في الاتصال مع الآخرين من أجل شرح ما يلاقيه شعبهم من عسف، رغبة في المساندة والتأييد، وكان من بينها المجلس الأعلى للثورة الإسلامية في العراق، بقيادة المرحوم الشهيد محمد باقر الصدر. كانت الكويت إحدى المحطات الرئيسية في محاور الاتصال، كونها بلادا تتمتع بسقف عال من الحريات، ويمكن أن يجري فيها نقاش حر وسهل وعقلاني.

أذكر أن نقاشا جرى بين كاتب هذه السطور وبين أحد أقطاب المجلس، وهو شخصية لها موقع متقدم اليوم في بغداد، كان النقاش صريحا: إنكم، أي المجلس الأعلى، لن تستطيعوا بناء نظام في عراق المستقبل يعتمد على فكرة laquo;ولاية الفقيهraquo;، أمامكم طريق واحد لا غير، هو بناء تحالف يتسع لكل الاجتهادات قائم على التصور التعددي، والأسباب أن ذلك النظام (الإيراني) قد تبين قصوره العميق في علاقته بالحريات كما يحدث أمام أنظار الجميع، وثانيا لأن بغداد غير طهران، فالتفكير في ولاية الفقيه في العراق يظهر لكل عاقل أنه خارج السياق التاريخي. شهادة للتاريخ، قال الرجل محاورا للفكرة، إن ذلك صحيح، وولاية الفقيه غير متوفرة شروطها في العراق.

إذا كانت بغداد وهي ما هي، غير قابلة لأن تستنسخ ولاية الفقيه، وتمكين رجال الدين على المقدرات السياسية، فالأولى أن تكون المنامة لأسباب أعمق وأكثر جذرية غير قابلة لذلك. كما أن كل ما تم في تونس ومصر يقول لنا بوضوح إن زمن الدولة العسكرية، كما الدولة الدينية، قد انقضى زمنه.

الاستمرار في هذا التوجه؛ خلط الديني بالسياسي، لدى بعض المعارضة في البحرين، من خلال ما رشح من شعارات وصدر من هتافات، قد يؤدي إلى طريق ينتهي بالمطالبة بولاية الفقيه. ذلك لا يعرض البحرين لمخاطر عظيمة، بل يعرض الديمقراطية والمشاركة إلى نكسة لا تقوم لها بعدها قائمة. فالديمقراطية والمشاركة التي هي حق من حقوق الناس، فلسفتها الأعمق لا تعني فرض توجه بعينه على الآخرين.. هي ليست خاصة بفئة اجتماعية دون أخرى، أو طيف سياسي دون آخر، في صلبها قاعدة ثابتة هي قبول الآخر وتقبل اجتهاداته والحوار معه، للوصول إلى المشترك والجوهري المقبول للمواطنين كافة، لبناء مجتمع مدني.

الدولة الدينية، كما في إيران وأيضا السودان، تبنت هيمنة القوة واستبداد السلطة وتعسف الرقابة وقمع الحريات العامة، ولست هنا بصدد الاستفاضة في سرد الشواهد، فهي قائمة في شوارع طهران والخرطوم يراها كل ذي بصيرة، واستنساخ مثل هذه كارثة.

منذ أمد طويل سقط من قاموسي الشخصي مفردات مثل laquo;السنة والشيعةraquo;، فقد كنت، ولا أزال، أرى أنها مفردات يجري التكسب من ورائها تكسبا سياسيا مذموما، وقد تأتي بأعظم المخاطر والشرور في المجتمعات التعددية، وتنتج تسلط رجال الدين على السياسة، وهو أمر نضجت الشعوب العربية عنه، واستعاضت عنه بغيره، عنوانه: المجتمع المدني والتعددية السياسية.

المعارضة في البحرين لها كل الحق في المطالبة بالمشاركة وبالحريات، ولكن بعضها، وليفهم الإخوة المعارضون، بعضها اليوم له أجندة أخرى في أقلها تحكم رجل الدين في المقدرات السياسية. فرصة التحول إلى حريات أكثر ومشاركة أوسع في حالة السيولة السياسية العربية التي نشهدها فرصة كبيرة لتحقيق الكثير للتحول الصحي إلى مجتمع مدني حديث يحترم حقوق الناس بالتساوي، خاصة في ساحة الحوار التي فتحتها القيادة السياسية في البحرين. أن تتحقق الحريات هو مكسب وطني للجميع، أما أخذ البلاد والعباد عن طريق المزايدة إلى مكان ما تحت عباءة الولي الفقيه، فذلك تزيّد يهدد بالانتكاس، كما يعرض النسيج الاجتماعي للتمزق الخطر. العالم يرى ويسمع ما يجري لدى الجارة إيران، من تململ على رؤوس الأشهاد، جراء الضمور المرضي لكل أشكال الحريات، حتى البسيطة منها كحرية التظاهر، فما بالك بحرية الرأي المخالف، وقمع التظاهر، ومنع تنظيم المعارضة السلمية، وإجبار المختلفين على البقاء في منازلهم. فكيف يمكن إقناع العقلاء بالتوجه إلى laquo;ولاية الفقيهraquo; وأهلها ينفرون منها ليل نهار، ودماء الأبرياء تسيل من دون رادع من ضمير.

المغامرة بفرص متاحة للتحول السلمي من أجل توسيع نطاق الحريات، التي بذرت منذ عشر سنوات نتيجة الإصلاحات التي قدمها العاهل البحريني، وجرى بعدها العديد من جولات الانتخاب، وكسب التقدم نحو الرقابة التشريعية خطوات معقولة، المغامرة بكل ذلك وبفرص توسيعه الممكنة، هي مغامرة غير محسوبة النتائج.

واعلم أن هناك من العقلاء في الصف المعارض من يفهم ذلك. المخاطرة الكبرى أن يقع ذلك الصف، نتيجة المزايدة، إلى ترهيب فكري من جانب القلة ذات الأجندة الخاصة الموجهة للاصطفاف وراء منظومة للحكم الديني؛ إن لم يكن تصريحا فتلميحا، فتتحول المطالب التي يحتاجها الشعب بكل أطيافه من عدالة اجتماعية وإصلاح وتنمية وسيادة للقانون، إلى مطالبات فئوية ظاهرها فيه الرحمة وباطنها فيه العذاب.

الأزمة تقدم لنا فرصا وأيضا تأتي بالمخاطر. الفرص أن يتقدم العقلاء لحلول سياسية تنهي هذا التشنج على قاعدة المواطنة والمساواة وتكافؤ الفرص. أما المخاطر، فهي المبالغة إلى حد التعجيز، واستغلال الأبرياء، والتكسب السياسي من معاناتهم، خدمة لأجندة غامضة تغامر كليا بكل الفرص لتبقى الأزمة مفتوحة على كل الاحتمالات ومنها احتمال خسارة لا تعوض للحريات..