عبد الباري عطوان
بعد اقل من عشر ساعات من القاء المهندس سيف الاسلام القذافي خطابه الذي توعد فيه الشعب الليبي بمقتل الآلاف، بدأت الطائرات الحربية في قصف الثوار الليبيين في طرابلس العاصمة وبنغازي ومدن ليبية اخرى، وسط تعتيم اعلامي شامل، وقطع لكل وسائل الاتصال السلكية واللاسلكية، وصمت دولي مطبق.
نحن امام مجازر تستهدف الشعب الليبي الاعزل، من قبل دبابات وطائرات وميليشيات ومجموعات من المرتزقة جرى استقدامها من بعض الدول الافريقية للتصدي للمحتجين بعد ان انحازت القبائل في معظمها للثورة، والكثير من وحدات الجيش والامن، وبات النظام يقف وحيدا دون اصدقاء او حلفاء من اهل البلاد باستثناء القلة القليلة.
تابعت قناة الجماهيرية الرسمية طوال يوم امس لعلي اكوّن صورة عن وضع النظام وطبيعة خطابه الاعلامي فكان المنظر بائساً بكل معنى الكلمة، مذيعون مرتبكون، وكاميرا تجاهد لنقل صورة لبضع عشرات من المتظاهرين يحملون صور الزعيم الليبي واعلامه الخضراء.
الطريقة التي ألقى بها المهندس سيف الاسلام خطابه كانت ابلغ تعبيراً من الشاشة الرسمية، فقد كان مهتزاً وهو يوجه التهديدات للشعب الليبي بالحرب الاهلية، ويصف الثائرين من ابناء شعبه بالبلطجية ومتعاطي المخدرات وحبوب الهلوسة ويلوح بتفتيت البلاد، واستخدام سلاح القبلية للدفاع عن نظام يواجه الانهيار على ايدي ابناء الشعب وبطريقة مهينة.
لا نعرف ما هي الصفة التي اعطت لسيف الاسلام الحق في مخاطبة الشعب الليبي بالطريقة التي خاطبه بها، فوالده معمر القذافي الذي يستمد شرعيته من ابوته، ظل يدعي طوال السنوات العشرين الماضية بانه لا يملك اي سلطات رئاسية او حكومية بعد ان سلم السلطة للشعب، فاذا كان حال الوالد كذلك، اي لا يملك سلطات، فما هي السلطات التي تخول الابن بحيث يهدد باعادة البلاد الى العصر الحجري، ويؤكد انه سيقاتل حتى آخر رجل وآخر امرأة وآخر طلقة؟
ليبيا لن تتحول الى 'امارات اسلامية' مثلما توعد المهندس سيف، كما انها لن تتفتت الى دويلات ايضا، فابناؤها الثائرون في مختلف المدن ابتداء من طبرق في الشرق وحتى زوارة في اقصى الغرب، يريدون اخراج ليبيا من العصر الحجري الذي تعيشه حاليا، والانتقال بها الى عصور الحضارة والرقي، الى الديمقراطية وحقوق الانسان والعدالة الاجتماعية، والتوزيع العادل للثروة، وفق خطط علمية حديثة تضعها في المكانة التي تستحق.
' ' '
كنا نتمنى لو ان المهندس سيف الذي قضى معظم سنواته الاخيرة متنقلاً في عواصم الغرب، قد استخدم لغة حضارية في مخاطبته للشعب الليبي، مثل ابداء الاسف لسقوط مئات الشهداء، فهؤلاء ابناء ليبيا اولا واخيراً، او شدد على ضرورة الاحتكام للعقل وليس السلاح مثلما قال، ولكنه لم يفعل، نقولها بكل أسف.
لجوء النظام الليبي الى قوات المرتزقة للدفاع عن وجوده في السلطة ليس جديدا، فقد استعان بهؤلاء عندما احتلت قوات تشادية تمتطي سيارات تويوتا قاعدة جوية ليبية قرب سبها الجنوبية في الثمانينات، دون اي مقاومة، لسبب بسيط هو ان الجنود في القاعدة كانوا من دون اسلحة، وحتى من حمل اسلحة منهم فكانت دون ذخائر، لان النظام كان يخشى من الجيش وانقلابه ضده.
الشعب الليبي يستحق الحرية بعد اكثر من اربعين عاماً من حكم ديكتاتوري حرمه من ابسط حقوقه، وحول بلاده الى حقل تجارب لمختلف النظريات السياسية المتناقضة، ابتداء من الاشتراكية الى حكم اللجان الثورية، وانتهاء بالرأسمالية المنفلتة، وكان الفساد هو القاسم المشترك لجميعها.
هذه الانتقالات الجماعية التي نراها من قبل كبار رجال الدولة وعلى رأسهم المستشار القاضي مصطفى عبد الجليل وزير العدل تؤكد على اصالة الشعب الليبي، ورفضه للظلم، مثلما تؤكد على عزمه وشجاعته في مواجهة نظام متجبر متغطرس. فكيف يستمر وزير العدل في منصبه في ظل غياب العدالة، وسقوط المئات من الشهداء بالرصاص الحي، وشظايا قذائف الار.بي. جيه؟
العالم بأسره يجب ان يتدخل، وبأقصى سرعة ممكنة، لانقاذ الابرياء الليبيين من حمام الدماء الذي اعده النظام لهم، وعمليات القتل الشرسة التي تستهدفهم في وضح النهار بعيداً عن الكاميرات ووسائل الاعلام البديلة. فمثلما تدخل العالم لوقف المجازر في رواندا، وفرض الحماية على المناطق الكردية في شمال العراق، وارسل قوات لحقن الدماء في دارفور، فانه مطالب بفعل الشيء نفسه في مختلف المدن الليبية.
' ' '
نعم.. ليبيا ليست مثل مصر او تونس، هذه هي المقولة الوحيدة التي نتفق فيها مع المهندس سيف القذافي.. ليبيا الاكثر سوءا على الاطلاق. ففي مصر مبارك، وتونس بن علي بنى تحتية، ومستشفيات وجامعات، ومؤسسات، ودولة، وشبكة طرق عامة، وصحافة ومحطات تلفزة خاصة حتى وان كانت مملوكة لمقربين من النظام، ولكن جميع هذه الاشياء، واكثر منها، غير موجودة في ليبيا المحكومة من العقيد معمر القذافي، وان وجدت ففي حال يرثى لها.
ولان الاوضاع في ليبيا اكثر سوءاً، وشعبها الاكثر معاناة في ظل نظام ديكتاتوري قمعي، فان فرص نجاح الثورة فيها اكبر بكثير.. الشعب الليبي صبر طويلاً، وتحمل الكثير من المعاناة، ولكنه صبر الجمال، وعندما يثور لا تتوقف ثورته حتى يحقق جميع مطالبه. ومثلما انتصرت ثورة الشعبين التونسي والمصري، ستنتصر ثورة الشعب الليبي في نهاية المطاف. لانها الثورة الحقيقية على ثورة ليس لها من اسمها نصيب.
الشعب الليبي الذي قهر الاستعمار الايطالي الاشرس من بين اقرانه في القمع والقتل، سيقهر قطعاً من يريدون اذلاله واهانته وتحطيم كرامته، وتبديد ثرواته، فقد طفح الكيل ولحظة الخلاص باتت وشيكة.. بل وشيكة جداً.
الزعيم الليبي الذي طالب شعبه بالرحيل الى افريقيا وحوض النيل حيث الماء والخضرة والثروات، لماذا لا يبادر هو بتطبيق نصائحه هذه ويبدأ بنفسه، ويقرر اللجوء الى اي دولة افريقية تستضيفه، واسرته، حقناً للدماء، وحفاظاً على ليبيا التي طالما تغنى بحبه واخلاصه لها.
- آخر تحديث :
التعليقات