مصطفى الفقي


في غمار الأحداث الساخنة والفوران الشعبي الكاسح في عدد من الدول العربية حتى تغيَّر بها وجه الحياة السياسية - إلى الآن - في تونس ومصر، وفي ظل ذلك الجو الصاخب الذي تعالت فيه صيحات الحناجر مطالبةً بالحرية والارتفاع بالإنسان العربي بعيداً من التهميش، قرأت مقالاً في صحيفة laquo;الحياةraquo; منذ أيام لكاتبٍ عربي، ويجب أن أعترف أن ذلك المقال قد أزعجني، لأن الكاتب عندما أراد أن ينتقد الأمين العام لجامعة الدول العربية - وهذا حقه - ألقى بأحجارٍ ثقيلة على الدولة المصرية فهو يطالب بتدويل المنصب - وهذا حقه أيضاً - أما أن يقول laquo;ولمَ لا ينتقل مقر الجامعة من مصر أيضاًraquo;؟ فأنا لا أفهم دوافع الكاتب العربي في هذه الظروف تحديداً إذ يبدو أنه قد غاب عنه أن مقر جامعة الدول العربية في القاهرة قد جاء بنص ميثاقها منذ إنشائها، أما جنسية الأمين العام فذلك عرفٌ ـ بما له وما عليه ـ جرى عليه العمل العربي في كل الظروف حتى إن مقر الجامعة عندما انتقل من القاهرة إلى تونس بعد اتفاقيات laquo;كامب ديفيدraquo; فإن الأمين العام الجديد كان تونسياً من دولة المقر أيضاً، وليس هنا موضع الجدال ولكن الذي أزعجني أنني شعرت من مقال الكاتب أنه يحاول الإقلال من حجم مصر ودورها في آخر وقتٍ يمكن أن يقال ذلك، حيث يغير شبابها شكل التاريخ ويصنعون مستقبلاً جديداً على نحوٍ رحبت به الشعوب العربية وشعر فيه الجميع بأن ميلاداً جديداً يحدث على ضفاف النيل، ولكن الكاتب الذي نشير إليه لم يشعر بما يعتمل في صدور العرب مع وقع هذه الأحداث فإذا به يكتب ومن دون مبرر أو سبب واضح أو نتيجة مطلوبة أن حجم السكان لم يعد يشكل وزناً خاصاً لأية دولة! ويبدو أنه يفكر بمعيار الثراء الذي يريد أن يكون به للغني صوتان أو ثلاثة بينما يبقى للفقير صوتٌ واحد! وهو بذلك يخرج على كل الأعراف والمعايير المرتبطة بالعملية الديموقراطية. إنني أعتب على الكاتب الفاضل على الدخول إلى الساحة بهذا المقال إذ كان بمقدوره أن يتناول منصب الأمين العام لجامعة الدول العربية كيفما شاء، من دون المساس بمصر العزيزة على قلبه ـ خصوصاً في هذه الظروف ـ والتي تربطها ببلده فوق الأرض المقدسة أقوى الروابط وأشد الصلات وأخص الأواصر. لقد كانت هذه مقدمة أردت بها أن أدخل إلى ذلك laquo;البركانraquo; الذي هزّ المنطقة العربية في الآونة الأخيرة وأضحى معه صوت الشعب العربي في عدد من الأقطار عالياً ومدوياً، لذلك فإنني أطرح هنا أسباب ذلك البركان ودوافع ذلك الطوفان مع الأخذ في الاعتبار مغزى التوقيت وأسبابه. دعنا نبحث ذلك في المحاور الآتية:

أولاً: إن تزامن الانتفاضات الشعبية في عدد من الدول العربية في وقتٍ واحد يعطي شعوراً بأن عاملاً مشتركاً يجمع بين دوافعها وهو في ظني ليس قضية الغنى والفقر، وليس مسألة البطالة وارتفاع الأسعار فقط أو تدني مستويات المعيشة ونوعية الخدمات وحدها إنما الأمر أعمق من ذلك بكثير فهي تعبير عن إحساس المواطن العربي بالامتهان أحياناً والتهميش أحياناً أخرى، كما أن فرط الهزائم السياسية والعسكرية قد خلق حالة عامة من الإحباط النفسي وصنع أزمة ثقة كبيرة بين بعض الشعوب وحكامها على نحوٍ خلق دوافع الثورة الشعبية وأسباب الرغبة في التغيير، لذلك فإننا نرى أنه ليس صحيحاً أن الشعوب تثور من أجل لقمة العيش وحدها، ولكن مناخ الحرية يبدو ضرورياً هو الآخر لاستقرار الشعوب وسلامة المجتمعات، لذلك فإن التوقيت المتزامن لهذه الثورات الشعبية إنما جاء نتيجة طبيعية للتشابه في الظروف المحيطة بالأقطار العربية عموماً مع اعترافنا بالخصوصية المرتبطة بكل دولة على حدة، فرجل الشارع في البحرين لا يعاني من مشكلات رجل الشارع في مصر وهما معاً لا يواجهان الظروف نفسها التي يواجهها المواطن الليبي، فلكلٍ بيئة سياسة مختلفة ونوع متباين من السلطة.

ثانياً: لا زلت ألح وسأظل على أن قضية الحرية قضية حاكمة وقد يقول قائل: ولماذا إذاً ثار الشباب المصري على رغم أن مساحة الحرية في الإعلام المرئي والمسموع والمكتوب لديه كانت متقدمة نسبياً حتى إننا كررنا في مناسباتٍ عدة أنها تبدو غير مسبوقة حتى في العصر الملكي المصري ذاته، ولكن الفارق هنا يأتي من أنها كانت حرية ورقية لا تتحول إلى إجراءٍ فاعل في القرار السياسي، فقد كان الشعار السائد هو laquo;دعهم يقولوا ما يريدون ودعنا نفعل ما نشاء!raquo; لذلك شعر المصري - الذي بدأ يتعرف إلى كل ما يجرى في عالم اليوم من صفحات الإنترنت وتوابعها - بأن هناك حالة استبعاد لفئات كثيرة وقطاعات مختلفة بل وطوائف من الشعب بحيث لا تبدو صانعة قرارَ المستقبل الذي

ستعيشه الأجيال القادمة خصوصاً من الشباب الذين يمثلون ما يقرب من ثلثي سكان مصر المعاصرة، لذلك أصبحنا دائماً أمام غضب كامن يزيد من لهيبه شعور بالاحتقان من الزواج غير الشرعي بين السلطة والثروة على نحوٍ نبهنا إلى مخاطره على امتداد الأعوام الماضية.

ثالثاً: إن غياب العدالة الاجتماعية واتساع الهوة بين الطبقات قد أفرز بالضرورة شعوراً عاماً بالظلم الاجتماعي، ولقد حضرت شخصياً بعض حفلات الزواج التي أنفق أصحابها ما يقترب من خمسة عشر مليون جنيه مصري في ليلة العرس بينما العشوائيات تنهش في كبد المجتمع المصري الذي يعاني من نقص الخدمات من المياه النقية والصرف الصحي بل والكهرباء أيضاً فضلاً عن تدني خدمات الصحة والتعليم في شكل ملحوظ في السنوات الأخيرة، لذلك فإننا نرى أنه قد تعددت أسباب الثورة الشعبية ولكن الدافع الكامن يبدو واحداً وهو حالة الغضب الحبيسة في قلوب الناس والمؤثرة في الوجدان العام.

رابعاً: إن هناك بعداً خارجياً لتلك الأزمات الداخلية في الدول العربية والذي يتمثل في الضغوط النفسية التي يشعر بها المواطن العربي وهو يرى غزة محاصرة والقضية الفلسطينية تتجه من التسوية إلى التصفية والشقاق الفلسطيني - الفلسطيني يضرب الحقوق الفلسطينية في مقتل! لذلك يكون من الطبيعي أن تلتقي العوامل الخارجية مع الأسباب الداخلية لتشكّل دافعاً قوياً لكل الحركات الاحتجاجية والقوى المتمردة على الواقع الأليم الذي لم يعد يتناسب مع مكانة الفرد واحتياجاته في القرن الحادي والعشرين. إننا نتابع بأسى وحزن ابتلاع الدولة العبرية الأراضي الفلسطينية وعبثها في الجولان ورغبتها في الحصول على المياه والأرض والشجر والبشر من دون مقابل قومي أو تنازل سياسي، فإسرائيل تسعى حالياً إلى الفكاك من التزاماتها تجاه من تحتل أرضهم وتهدم ديارهم وتذيقهم أكثر الجرائم ضراوة على مر العصور.

خامساً: إن التقسيمات الطائفية والنزاعات العرقية هي واحدة من مشكلات المنطقة العربية خصوصاً أن هناك من يغذيها ويصبّ الزيت على النار كلما استطاع ذلك، فالفتن الطائفية وصفة جاهزة خصوصاً في بعض الدول العربية مثل مصر ولبنان والبحرين والعراق وغيرها، وهو أمر يدعو إلى القلق لأنه يحيل المجتمعات إلى قنابل موقوتة قابلة للانفجار في أي وقت إذ إن المجتمعات العربية تحمل في داخلها أحياناً أسباب توترها بل وعوامل تفجرها، لذلك فإن الاحتقان الطائفي يعد واحداً من الأسباب الرئيسة لضعف السياسات العربية عموماً والإجراءات الحكومية فيها خصوصاً، ولن يكون هناك حل إلا بشيوع روح التسامح وانتشار فقه الواقع الذي يسمح لكل فرد أن يكون على درجة متكافئة مع غيره إعمالاً لمبدأ المواطنة وما تستدعيه من ظواهر سياسية وثقافية تسمح بانصهار المجتمع وتقدم عناصر القوة فيه على أسباب الضعف الكامنة لديه.

هذه ملاحظات خمس أردنا بها أن نقول إن عالمنا المعاصر الذي يفتح أبوابه ونوافذه للسيولة الإعلامية من كل اتجاه جعلها تصبح سبباً إضافياً لعوامل الاحتقان الوافدة إليه من خارجه، كذلك فإن فهمنا الأجيال اللاحقة إنما يمثل تلك الهوة بين الأجيال والفجوة التي تفصل بين المعدلات العمرية المختلفة داخل البلد الواحد. بقيت كلمة أخيرة وهي ضرورة احترامنا مطالبَ الشباب مع فهمنا الصحيح لمنطلقاته وغاياته ولا يمكن أن نصادر منه أسباب الحركة ودوافع التطور لأن الشباب هم أصحاب المستقبل الذي سيعيشون فيه زمناً مختلفاً، لأن لكل عصر رموزه وطقوسه ولكن تبقى الأوطان في النهاية هي الخالدة أبداً.