عبدالله اسكندر


قد لا تكون نكتة القذافي عن حب الشعب الليبي له والمستعد للموت من أجله، والتي اطلقها اول من امس من على شاشة شبكة تلفزيونية اميركية، آخر نكاته. فالأخ العقيد لا تخلو جعبته من مناورات وحيل، طالما استخدمها طوال اعوام حكمه منذ 1969، من اجل البقاء اطول مدة ممكنة قائداً لـraquo;جماهريته العظمىraquo;. لكن نكاته الأخيرة قد تكون اكثر مأسوية من رأيه في شعب بلاده.

يُمكن ان يُقال الكثير عن دموية القذافي واستبداده وانقطاعه عن العالم، خصوصا عن الشعب الليبي وتطلعاته، لكن الرجل مناور من الطراز الاول وحاذق في التمويه. وهذه الصفة اتاحت له حكم ليبيا على النحو المعروف اكثر من 40 عاما. وهو لن يتردد في اللجوء اليها مع ازدياد الخناق الداخلي والدولي عليه. كما لن يتردد في استخدام كل ما لديه من امكانات، حتى لو كانت تقل يوماً بعد بعد يوم، من أجل الاستمرار، من غير أدنى اهتمام بما يمكن ان تكون عليه ليبيا يوم رحيله.

من المستبعد ان ينجح مع القذافي الاسلوب الذي استُخدم في تونس ومصر لإجبار رئيسيهما على المغادرة. نظراً الى الاختلاف الفعلي لتركيب السلطة بين كل من تونس ومصر وبين ليبيا.

في تونس ومصر يشكل الجيش عماد السلطة، ومصدر قوة الرئيس. ولاسباب تتعلق بتقديرات قيادة الجيش في البلدين وطبيعة علاقة كل منهما مع الولايات المتحدة، سحب الجيش تأييده للرئيس ودعاه الى المغادرة، من اجل تفادي الانخراط في عمليات عنف ضد الشعب وانقاذ مرحلة مقبلة يحفظ فيها دوره.

أما في ليبيا، فقد عمد القذافي، عبر مناورة انتهازية وعملية تمويه واسعة، الى تقزيم الجيش الذي يعتبره مصدر الخطر على حكمه. واخترع نظرية الشعب المسلح، ليكوّن لجاناً شعبية وأمنية، لحماية حكمه. وفي الأزمة الحالية، قطف القذافي ثمار هذه المناورة، اذ ليست هناك من قوة فاعلة في محيطه المباشر تفرض عليه المغادرة لإنقاذ البلاد.

صحيح انه فقد سلطته سريعاً في غالبية مناطق البلاد، لكنه يتحصن في طرابلس مع اعوانه الخُلص الذين ارتبطوا به مصيرياً، سواء لدوافع عائلية وقبلية او لتورطهم معه في الجرائم التي ارتكبت ضد الليبيين.

وعندما يتحدث القذافي عن القتال من أجل البقاء فانه يعرف انه لن يغادر إلا في عملية عسكرية تستهدف حصنه الاخير.

وفي حساباته، ان ثمة صعوبة امام معارضيه لتنفيذ سريع لمثل هذه العملية، نظراً الى ما تتطلبه من امكانات وتنظيم تبدو غير متوافرة حتى الآن. فهو يعرف ان انحسار سلطته عن غالبية المناطق جاءت سلماً ونتيجة انضمام شعبي الى الحركة المناهضة له، وليس نتيجة عمليات عسكرية. ولذلك نشر في طرابلس كتائبه الامنية لمنع أي تحرك شعبي فيها، وايضا لتحصينها استعداداً للعملية العسكرية.

يراقب القذافي المواقف الدولية، ويدرك ان ثمة خطاً تصاعدياً فيها، يبدأ بالعقوبات واللجوء الى المحكمة الجنائية الدولية، وبدء ارسال مواد اغاثة وتحريك قوات. وفي تمسكه بالبقاء يستثير عملية عسكرية خارجية، قد يعتقد انها وحدها قادرة على ارغامه على الرحيل.

وربما هذه المواجهة مع قوات اجنبية في طرابلس هي ما يسعى اليه القذافي ليستعيد صورة البطل الذي يواجه غزواً أجنبياً. ألم يفعل ذلك صدام حسين عندما اعتبر ان الغزو الاميركي لبلاده سيعيد وهجه الذي فقده بانفضاض كل فئات الشعب العراقي عنه؟ وكانت النتيجة انه استقدم الغزو بدل ان يقدم تنازلات لشعبه ويغادر السلطة، والبقية معروفة.

وكما فشل صدام حسين في هذه المناورة، وجر ويلات اضافية الى بلده والشعب العراقي، لن يكون مصير تلك التي يعتمدها القذافي مغايراً. لكن بقاء الأخ القائد أياماً اضافية في الحكم يستأهل، في عرفه، إحراق ليبيا وتدمير ما بقي منها.