راجح الخوري

تتقدم ليبيا نحو حرب أهلية في وقت يراوح العالم في ما يشبه البلاهة المطلقة. فالعرب في غياب تام، وليس هناك من مرجعية أو قرار، ولعل هذا ما دفع دول مجلس التعاون الخليجي الى الدعوة لفرض حظر جوي على قوات معمر القذافي لوقف المذبحة ضد المدنيين الليبيين، وكذلك الى اجتماع للجامعة الدول العربية لتحمل مسؤولياتها. ومن المعروف أن بعض الأنظمة العربية علقت نيران الثورة والتغيير في أذياله، والبعض الآخر يتحسس خطر النار الكامن حتى وسادته.
وليس هناك حتى الآن من مرجعية دولية، لأن الخلاف في وجهات النظر بين أميركا من جهة وروسيا والصين من جهة ثانية والدول الأوروبية من جهة ثالثة، يمنع الوصول الى تفاهم الحد الأدنى ولو على إقامة منطقة حظر جوي لوقف دكّ الثوار الليبيين بصواريخ وقذائف المقاتلات القذافية.
وهكذا إذا كان القذافي يصر تكراراً على القتال حتى آخر قطرة دم، كما يقول، فإن ليبيا سرعان ما قد تتحوّل صومال ثانية أو تدخل في التقسيم، وعندها ستتضاعف بلاهة الأميركيين والأوروبيين الذين يحارون فعلاً في الأسلوب المناسبة للمساعدة على تغيير النظام، لأن حساباتهم انطلقت وتنطلق دائماً على قاعدة احتساب الحصص من الكعكة النفطية الليبية، وما إذا كانت هذه الحصة ستبقى مضمونة، سواء إذا تمكن القذافي من ربح المعركة، وهو أمر مشكوك فيه قطعاً بعد كل ما جرى، وسواء إذا ربحت الثورة وتم تغيير النظام.

❐ ❐ ❐

مرة جديدة يتم ضبط quot;الأخلاق الدوليةquot; غارقة في العار. فالحديث عن بعثة دولية لتقصّي الحقائق هو العار بعينه، ولكأن العالم لا يرى ماذا يفعل الديكتاتور المعتوه ضد أبناء بلده عندما يدكّ بيوتهم بالراجمات ويقصف تجمعاتهم بالمقاتلات ويدمر بلداتهم بمدافع الميدان.
ولا ندري ما هي الحقائق الأكثر دموية ووحشية التي تريد البعثة السعيدة ان تتقصاها، وأين وكيف، أم أن العالم ينتظر نموذجاً من الإبادة الجماعية في ليبيا كما حصل في رواندا عام 1994 أو مجزرة على طريقة سريبرينيتسا في البوسنة عام 1995، في حين ان ما يفعله مرتزقة القذافي هو سلسلة من المذابح اليومية المتتالية.
ما يثير التقزز أن الأمم المتحدة ردّت على مذابح القذافي حتى الآن بإصدار قرار إجماعي بحظر سفر المسؤولين الليبيين الكبار ومصادرة أملاكهم وإحالتهم على المحكمة الجنائية الدولية. والمثير أكثر أن هذه الإجراءات يُنظر إليها في مجلس الأمن على أنها تدابير صارمة!
ولعل ما يدعو الى الذهول أن مهرجاً ماجناً في القتل لا يكتفي بإرهاب شعبه مستعملاً آلته العسكرية ضد الثوار الذين استلحقوا ثورتهم بالتسلح عبر العسكريين الذين تمرّدوا على النظام وسيطروا على مناطق مهمة في شرق البلاد وغربها، بل انه يشن حربين إرهابيتين: واحدة ضد الليبيين، والثانية ضد الأوروبيين في الشمال عندما يقول لهم إن quot;القاعدةquot; ستكون البديل من نظامه، وان نشاط القرصنة الذي تشهده سواحل الصومال في بحر العرب قد تشهده سواحل ليبيا في المتوسط إذا سقط نظامه الديكتاتوري الماجن.

❐ ❐ ❐

في واشنطن يبدو المشهد هزلياً وهزيلاً وخصوصاً عندما يتناقض البيت الأبيض مع رئيس لجنة العلاقات الخارجية في مجلس الشيوخ السناتور الديموقراطي جون كيري، الذي قال إن على أميركا وحلفائها استصدار قرار أممي يسمح بإقامة منطقة حظر جوي تمنع مواصلة القذافي من الإغارة على مناطق الثوار، كما أن عليهم التفكير في قصف مطارات ومدارج القواعد الليبية.
وفي حين أيّد السناتور الجمهوري جون ماكين دعوة كيري، معتبراً أن فرض هذا الحظر لن يكون صعباً، جاء الرد من البيت الأبيض على شاكلة quot;التوبيخquot; عندما قال وليم ديلي رئيس الموظفين: quot;إن كثيرين من الذين ينطقون بعبارة حظر جوي للطيران يتحدثون عنها وكأنها لعبة، لعبة فيديو. هؤلاء الذين يتحدثون عن ذلك لا يملكون فكرة عما يتحدثونquot;!
لماذا هذا التناقض؟
إن العودة الى كلام وزير الدفاع روبرت غيتس قبل أيام تساعد على فهم هذا التناقض الذي يعتري الموقف الأميركي. فقد حذّر صراحة من أن quot;أي هجوم على ليبيا قد يجر أميركا الى نزاع آخرquot;.
كان واضحاً تماماً أن quot;العقدة العراقيةquot; تكمن وراء كلمات غيتس. فليس سراً أن وضع القذافي كديكتاتور دموي متوحّش يشبه وضع صدام حسين، الذي صفّق معظم العراقيين لسقوطه ثم سرعان ما ارتدّوا ليتعاملوا مع الأميركيين كمحتلين. ومنذ عام 2003 حتى الآن تغيّر النظام في العراق لكن اخطاء التدخل العسكري الأميركي شوّهت صورة هذا التغيير داخل العراق وخارجه.

❐ ❐ ❐

طبعاً هذا مفهوم وواضح، ولكن من الواضح أكثر أن ليس هناك من يريد أو يقبل أن تتدخل أميركا وحلف شمال الأطلسي عسكرياً في ليبيا. الثوار في بنغازي أعلنوا ذلك صراحة والدول العربية كذلك، وليس هناك من عاقل يدعو الى مثل هذا التدخّل.
ولكن، في المقابل، ليس هناك من عاقل يملك ذرّة من الأخلاق وينسجم مع كل ما يُقال عن حرية الشعوب ومعارضة القمع المتوحّش وارتكاب المجازر بحق المدنيين يمكن أن يسمح بالاستمرار في التفرّج على ما يحصل في ليبيا على يد القذافي ومرتزقته وسلاح طيرانه ومدرعاته، وان فرض منطقة حظر جوي ليس مهمة مستحيلة كما يحاول البيت الأبيض أن يصوّرها.
صحيح أن التغيير يجب أن يُستكمل على أيدي الليبيين أنفسهم الذين صنعوا ثورتهم بعد 42 عاماً من ديكتاتورية متوحشة ومعتوهة، وصحيح انه من الأفضل أن تحرر ليبيا نفسها من نظام القذافي، ولكن مخاطر الإنزلاق الى حرب أهلية قد تنقل الصوملة الى ليبيا، وقد تنتهي بالتقسيم، وسترسل أيضاً إشارات متناقضة الى أنظمة أخرى. فمن جهة ستستقوي الديكتاتوريات، ومن جهة ثانية سيزيد خوف الشعوب الراغبة في التغيير والثورة وسيتضاعف ترددها.
والخلاصة ان الانتقال السلس الذي حصل في تونس ومصر أطلق ويطلق رياح التغيير في المنطقة، أما ما يجري في ليبيا واليمن وتقريباً البحرين، فإنه بدأ يرفع سدود الحروب الأهلية والتقسيم في وجه التغيير.
والقصة طويلة والتردد الدولي أطول بكثير!