عبدالله السويجي

لم يعد التحليل السياسي سهلاً، من يريد اقتحامه لا بد أن يدرك أنه يمشي في حقل ألغام، ليس لأن الصورة غير واضحة المعالم، ولكن لأن المعالم ذاتها تتبدل بين ليلة وضحاها . فأنظمة راديكالية تتحول إلى ثورية، وثورة تتحول إلى ما يشبه النظام الراديكالي، ولا سيما في ما يتعلق بتبعيته وانتماءاته، والخائن يتحول إلى شريف، والشريف يصبح عميلاً، إلى آخر هذه الانقلابات العجائبية . والأمر ليس له علاقة بالسياسة، التي يعرفها البعض بأنها (فن الممكن)، ويحدد استراتيجيتها بأنها لا تقبل العداء الدائم، ولا الانسجام الدائم، فكل ذلك يعتمد على المصالح وحجم الانتفاع، ما يعني وبكل بساطة، الفساد القيمي، فالركض وراء المصلحة، مهما كان بريئاً، سيسقط في فخ المساومة على المبادئ، وهذا يؤدي إلى تنازلات هنا وتضحية هناك .

يبرر البعض هذه التنازلات والتعامل ب(فن الممكن) بتوازن القوى، وعدم الاستعداد للمواجهة، وضعف الجبهة الداخلية، وضعف الاقتصاد، وغيره من التبريرات الموجعة، بينما العمل الحقيقي يمكن أن يتجاوز نقاط الضعف المشار إليها، بأساليب عديدة . ولا نريد أن نحتكم إلى التاريخ ونقول إن له منطقه الخاص، فالتاريخ مجرد أحداث صنعها آخرون، والتاريخ الحالي نصنعه نحن، ويتحول إلى ماض، وليس بالضرورة أن يكون عبرة، فالمسارات ليست متشابهة، لا سيما حين يتعلق الأمر بمحاربة عدو أكثر عدة وعتاداً، فالفيل يمكن أن تغلبه فارة صغيرة بدهائها وتكتيكاتها .

وفي ذات السياق، وقريباً من التحولات الاستراتيجية للحركات التحررية، من كان يصدق أن الثورة الفلسطينية التي رفعت شعار (ثورة حتى النصر)، يجلس قادتها على طاولة مفاوضات مع العدو الصهيوني، ويقدمون تنازلات شتى، ويعترفون بوجود دولة غاصبة؟ ومن كان يصدق، أن اللاءات الثلاث التي رفعها الرئيس الراحل جمال عبد الناصر (لا صلح لا مفاوضات لا استسلام)، ستقود إلى اتفاقية كامب ديفيد، ويرتفع علم الدولة الصهيونية في قلب القاهرة؟ ومن كان يصدق أن جبهة الصمود والتصدي، التي تشكلت عقب اتفاقية كامب ديفيد، ستنهار، ويتشرذم أعضاؤها كل في طرف؟ ومن كان يصدق أن العقيد معمر القذافي، الذي كان يدعم كل الحركات الثورية والتحررية في العالم، يرضخ لأمريكا، ويفكك مفاعلاته النووية، ويستقبل كوندوليزا رايس، وزيرة الخارجية الأمريكية في عهد الرئيس بوش، ثم يستقبل هيلاري كلينتون، وزيرة الخارجية الأمريكية الحالية، وتوني بلير، رئيس وزراء بريطانيا الأسبق، هؤلاء الذين كان يعاديهم، ثم ينصاع لهم، لينقلبوا عليه الآن؟ ومن كان يصدق أن ينفصل جنوب السودان في عهد الرئيس عمر البشير، الذي كان يشدد دائماً على وحدة السودان؟ ومن كان يصدق أن ينهار حكم صدام حسين، وتحضر أمريكا لتتمركز على حدود إيران؟ ومن كان يصدق أيضاً تفكك الاتحاد السوفييتي، لتتمركز القوات الأمريكية على حدوده، وهو حلم كان بعيد المنال، إن لم يكن مستحيلاً، أيام الحرب الباردة بين المعسكرين الاشتراكي والرأسمالي؟ بل من كان يصدق انهيار الاشتراكية السوفييتية، وتحوّل روسيا إلى نظام جمهوري تمثيلي دوري؟ والآن، وفي الشأن الليبي أيضاً، من كان يصدق أن المظاهرات التي انطلقت في بنغازي ستتحول إلى حرب عسكرية بين ليلة وضحاها؟ ومن كان يصدق أن يطلب الثوار دعماً أمريكياً وغربياً، في الوقت الذي من المفترض فيه، أنهم يثورون ضد الاستعمار والفساد والحرية؟ ومن كان يصدق أن ينصاع القذافي لقرار مجلس الأمن؟

هل هذه هي السياسة التي يقولون إنها تتبدل وفق المصالح؟ ترى أين المصلحة في طلب الحماية الأمريكية؟ وأين المصالح في التنازلات للعدو الصهيوني، وفي تدمير مفاعلات نووية؟

ثورة في تونس أزاحت الرئيس بن علي، ولكن نظامه وشخوص نظامه لا يزالون في كثير من أماكنهم، وثورة في مصر أطاحت بالرئيس حسني مبارك وأتت بمجلس عسكري كان في عهد الرئيس مبارك ليواصل الحكم، ويشرف على انتخابات تشريعية ورئاسية . ثورة في ليبيا، والمجلس الانتقالي يرأسه وزير العدل الذي كان يعمل مع القذافي، والولايات المتحدة تدعم كل هذه الثورات، وفي الوقت نفسه، تقمع الثوار الفلسطينيين، هل من أحد لديه تفسير لهذه المواقف؟

وهل هنالك تفسير لهذا التسلسل الزمني، أن تبدأ في تونس، ثم تنتقل إلى مصر، ثم إلى ليبيا، أي في المغرب العربي، ثم إلى سوريا؟ أما اليمن، فالصراع بين الحكومة والمعارضة قد سبق تونس .

إن أي ثورة لا ترفع شعار ldquo;المزيد من التلاحم العربيrdquo; هي ثورة ناقصة، وأي ثورة لا ترفع شعار ldquo;معاداة الصهيونيةrdquo; هي ثورة فاشلة، وأي ثورة تستقوي بأمريكا، التي ما وقفت يوماً إلى جانب الحق العربي، هي ثورة مشبوهة، وأي ثورة، لا ترفع شعار ldquo;الشفافية أولاًrdquo; هي ثورة فاسدة، وأي ثورة تفتقر إلى برنامج سياسي واضح المعالم، هي ثورة غامضة وتوصف بأنها خطوة في الفراغ، وأي ثورة لا تحارب الظلم والفساد هي ثورة فاسدة، وأي ثورة تستقوي بالخارج، وتنفذ أجندته وسياسته هي ثورة خائنة، فهل نجحت الثورات والانقلابات التي شهدها الوطن العربي منذ نال استقلاله حتى الآن؟ ألم تحملنا من هزيمة إلى أخرى، ومن طغيان إلى آخر، ومن استبداد إلى آخر أكثر استبداداً؟

هل القضية إذن، تغيير شخص واستبداله بشخص آخر، وفي سبيل ذلك يموت المئات ويصاب الآلاف ويعاق الآلاف أيضاً، وتحرق الممتلكات وتعود البلاد إلى ما قبل عشرات السنين؟ ألا توجد طريقة أخرى لإزاحة هذا الشخص عن الكرسي، هل كان الأمر مرتباً ومنظماً، أم أن الدمار والحرق والفوضى، وحجز الأموال ومصادرة الأرصدة، والتحكم بآبار النفط هو المطلوب . .؟

حفظ الله أمتنا العربية من الطامعين وسلمتم .