خالد هنداوي
لعل الوضع الخطير في المشهد الليبي بشدة حساسيته وتعقيد أزمته يلجئنا إذا كنا منصفين في التحليل من جهة والعمل على حله أو التخفيف من آثار مشكلاته على الشعب الليبي عامة والثوار والنازحين من البلاد نتيجة هذه الكارثة، خاصة من جهة أخرى، أن نضع الأمور في نصابها قدر الإمكان وأن ننطلق من وعي شرعي ووطني وإنساني للعمل على حلحلة هذه العقد بألغازها الظاهرة والخفية سيما أن التدخل العسكري الأجنبي تحالف بعد قراري مجلس الأمن 1970-1973 للسير سريعا على وقف شلالات الدم التي تسيل في هذه البلاد وحماية المدنيين على حد تعبير دول التحالف تلك وعلى رأسها فرنسا التي تزعم رئيسها ساركوزي هذه الحملة معلنا أنها من واجبات التاريخ المعاصر لإنقاذ الشعب من فظائع القذافي المستبد العنيد. وأيا كانت الرؤى والسيناريوهات المتوقعة للمشهد الليبي حاليا فإننا نرى ضرورة التذكير بالمعالم والمنائر التي قد تفيدنا الآن وفي المستقبل حياك ذلك وصولاً إلى التوازن في المواقف.
أولاً: إن الثوار الليبيين المباركين قد بدأوا تحركاتهم لعملية التغيير سلميا، ثم جرت الاعتداءات الفعلية عليهم بل وعلى المدنيين فاضطروا أن يمتشقوا السلاح الذي استطاعوا أن يغنموا كثيرا منه عن كتائب القذافي أو الذي أحرزوه بعد أن حرروا بعض المدن والقرى وعلى رأسها بنغازي لاشك أن هؤلاء الثوار محقون في مطالبهم التي احتجوا من أجلها ليزول فساد نظام القذافي الذي أذاقهم الويلات على مدى أربعة عقود ولذلك لم يكن غريبا أن يضحوا بآلاف القتلى والجرحى والمشردين من أجل الحرية والكرامة فالمجد لا يقوم إلا على رؤوس الضحايا فطوبى لهم وألف طوبى ونرجو منهم من باب الأخوة ألا ينسوا الإفادة من الخطاب الإسلامي السياسي الرشيد والمرن والقوي بآن واحد، خاصة ما يستلهم من سيرة رسول الله صلى الله عليه وسلم ففيها المعين الكافي، وكم أعجبني موقف لأحد أمراء الجهاد الأفغاني المشهورين وهو المرحوم أحمد شاه مسعود عندما سأله أحد الصحافيين أنه سمع وقرأ أن أحمد شاه يعتمد في شن عملياته القتالية خاصة في وادي بنجشير في الشمال على ما يطلع عليه من كتب فرنسية متخصصة في مجال حرب العصابات ضد الجيش وهنا ضد السوفييت بعتادهم المتطور المعروف آنذاك، فأجاب: لا أبداً أنا لم أعتمد في كل معاركي إلا على ما فهمته وتعلمته من السيرة النبوية في مغازي رسول الله صلى الله عليه وسلم ثم الصحابة والتابعين في الفتوحات بعده، وأقول: إن على الثوار ومسؤوليهم خاصة المجلس الانتقالي الجديد بزعامة الوزير مصطفى عبدالجليل أن يتريثوا في تصريحاتهم وأن يدرسوها بعمق أكثر وينظروا إلى مآلاتها ومقاصدها بعناية ويفيدوا من الحركات التي سبقتهم في الصراع الفعلي وهي معروفة فعلى حين سمعنا بيانات وإجابات وتعليقات ومداخلات مقدرة جدا عبر العديد من الفضائيات رأينا بعض الخطابات الأخرى أقرب إلى العاطفة ومجرد التهديد والوعيد ضد القذافي وكذلك بعض المداخلات التي كانت على مستوى الوعظ فقط وإن كنا لا نقلل من قيمة ذلك ولكن لكل مقام مقال، وإذا كان صحيحا كمثال أن ما وعد وتوعد به البعض نفذ على الأرض ضد القذافي وكتائبه وتم إسقاط طائرات وتدمير دبابات وعربات و... فإن الاستهانة بما عنده وكونه أصبح منتهيا ولم يعد إلا بمثابة الفأر الذي سيخرجه الثوار من جحره و.... لم يكن دقيقا، فالطاغية أبرز ويبرز تحديا فعليا قويا واستطاعت كتائبه ومرتزقته أن تتقدم وتسترجع عددا من المدن والمواقع وإن انهزمت في أخرى بسبب صدق المجاهدين وصلابتهم وإرادتهم وتفضيلهم الموت على حياة الذل والعمل بشعار القائد الفذ عمر المختار رحمه الله نحن لا نستسلم ننتصر أو نموت ومن كافأنا بالمكر كافأناه بالغدر به وهو ما فعلوه حماهم الله وإن كانت الحرب سجالا فرا وكرا ولكن التصريح الذي يجب أن ينضج يكون أكثر تقديرا وتأثيرا، ومن جهة أخرى فقد صرح الثوار ومعهم جميع أحرار ليبيا أنهم لن يقبلوا بحال من الأحوال التدخل الأجنبي والاستقواء به قبل ومنذ أن تحركت بعض البوارج الأمريكية في ساحل البحر المتوسط تجاه السواحل الليبية وتكرر هذا التصريح، ولكن الذي حدث وأنا أعتقد أنه منذ تم هذا الأمر كان معظم الغرب قد بيت النية للتدخل بأطماعه الدنيوية وأهمها النفط والغاز، إذ أخذ رئيس المجلس السيد مصطفى عبدالجليل يطلبون التدخل عندما اشتدت عليهم الخطوب وحتى لما بدأ التدخل وضربت فرنسا قبل غيرها أهدافا للدفاعات الجوية الليبية وكانت الكتائب على إشراف بني غازي صرح الأخ عبدالجليل أن التدخل جاء متأخرا! ومع أني في هذا الموقف الحرج للثوار أميل إلى أن الضرورات تبيح المحظورات كما قال الفقهاء وأكد الإمام الشافعي أنه إن رأى الإمام أن الكافر حسن الرأي والأمانة في المسلمين وكانت الحاجة داعية إلى الاستعانة به جاز وإلا فلا، كما جاء في مغني المحتاج quot;4/221quot; وعلق الدكتور البوطي في فقه السيرة quot;ص 178quot; على ذلك بقوله: إن المسألة داخلة في السياسة الشرعية إذ إنه إن لم تكن حاجة فلا يجوز طلب المعونة منهم كما ذهب إليه جمهور كبير من أهل العلم، وهنا أقول: إن القرائن المتكررة عن أفعال هذه الدول الغربية وعلى رأسها أمريكا وطبائع أشخاص قادتهم مثل ساركوزي لا تدل على أنهم أصفياء وذوي نيات طيبة في الغالب والأمثلة أكثر من أن تحصر ولعل حروب الخليج واحتلال العراق الذي سبقت له تصريحات أنه لن يحتل ثم احتل أكبر شاهد معاصر أمامنا فهؤلاء لا تهمهم في النهاية إلا مصالحهم ولو كانت ليبيا من البلاد الزراعية مثلا التي تخلو من النفط والغاز.. لما تقدم مثل هؤلاء فيما أظن بحجة حماية المدنيين فقط والشاهد ماثل أمامنا فقد سئل وزير الخارجية الأمريكي اليهودي الأسبق هنري كيسنجر لما حررت الكويت من احتلال صدام هل لو كانت تزرع البطاطا والطماطم تحررونها فقال: وي كيم فور أويل أتينا للبترول! وهكذا فلعلي أذكر نفسي والإخوة في ليبيا أن الضرورة تقدر بقدرها كما قال الفقهاء فكونوا على حذر كيلا تختطف ثورتكم مستقبلا لا سمح الله والله يقول (يا أيها الذين آمنوا خذوا حذركم...)، quot;النساء: 71quot;.
وكما يقول المتنبي:
إذا رأيت نيوب الليث بارزة
فلا تظنن أن الليث يبتسم
وكما قال أبو الشرايا: كن بحيلتك أوثق منك بشدتك وبحذرك أوثق منك بشجاعتك وإني لأكبر فيكم إباءكم وعزتكم في وجه الريح المتغطرسة من العقيد فشعاركم المنية ولا الدنية النار ولا العار، لنا الصور دون العالمين أو القبر ولكن احذروا أن تشوه صورتكم بعد التدخل الأجنبي.
ثانياً: إن القذافي بتعنته القميء وحماقته التي تستعصي على أي دواء هو السبب المباشر للتدخل الأجنبي العسكري ولو كان وطنيا وإنسانيا حقا لتنازل لصالح الشعب وحقن الدماء، كما فعل الحسن بن علي مع معاوية رضي الله عنهما وكما فعل رئيس سوريا الأسبق أديب الشيشكلي ورئيس السودان الأسبق المشير عبدالرحمن سوار الذهب مثلا ولكن القذافي كأنه مختل في تفكيره ومضطرب لا يملك أي توازن في شخصيته وإن من شروط الحاكم في الإسلام كونه رشيدا عاقلا لا انفصام عنده.
ثالثاً: إن التدخل المباشر والقصف السريع الذي قامت به فرنسا وبريطانيا وأمريكا بالصواريخ وعطلت معظم الدفاعات الجوية الليبية غير مقبول بهذا الشكل إذ اتفق أمين عام الجامعة العربية عمرو موسى، ومن معه مع أولئك على حظر جوي وقائي يختلف عن هذا التعاطي العسكري المباشر منهم ومع ذلك عارضته دول أخرى وإن الخطأ بل الخطر منا نحن العرب فلو ملكنا القدرة باسم الجامعة على الاشتراك الفعال لن يكون لهؤلاء مجال كما أكد رئيس الوزراء القطري معالي الشيخ حمد بن جاسم آل ثاني في باريس ولكن كما قلت هؤلاء لهم مصالحهم فالإنجليز يريدون الـquot;9.5quot; مليون طن من غاز الخردل، كما صرحوا وفرنسا وغيرها عيونها على البترول.
رابعاً: علينا أن نعتمد على الذات مهما طال الأمر وزادت التضحيات وألا ننزلق إلى حرب شاملة وأن نحذر من تقسيم ليبيا والوقوع في كمائن القذافي أو الأجانب فالليالي حبالى يلدن كل عجيبة.
التعليقات