فؤاد مطر

يعيش الرئيس بشار الأسد، في ظل عاصفة التغيير العاتية في المنطقة، وضعا فيه كثير الشبه من الوضع الذي عاشه الرئيس (الراحل) أنور السادات في السنوات الثلاث التي سبقت حرب أكتوبر (تشرين الأول) 1973. ومنذ الانصراف العسكري السوري والأمني الاضطراري عن لبنان وما استتبع هذا الانصراف من إحباطات على الصعيد المعنوي وعزلة على الصعيديْن العربي والدولي، بذل الرئيس بشار الكثير من الجهد لتخفيفها من خلال علاقة مع الحكم الإيراني كانت من نوع الحب من طرف واحد هو إيران بطبيعة الحال، كما أنها كانت في بعض ضروراتها مثل الذي فعله الرئيس معمر القذافي عندما يمم جماهيريته العظمى شطْر القارة الأفريقية ناقما على العروبة التي طالما تباهى بأن الرئيس (الراحل) جمال عبد الناصر أهداه بيعة معنوية تمثلت بالقول له إنه أمين القومية العربية من بعده. وهذه المبايعة مثل مبايعة أحمد شوقي أميرا للشعراء ومبايعة أم كلثوم كوكبا للشرق ومثل مبايعة عبد الحليم حافظ عندليبا للأمة.. خطوة معنوية لا أكثر. وكما نال الرئيس بشار من الحب الإيراني بعض التحصين للصمود فإن الرئيس القذافي نال من إخوانه الأفارقة بعض التحصين أيضا للصمود في وجه عزلة بالغة القساوة فرضها المجتمع الدولي عليه ولم تساعده البيعة التي جاءته من جيرانه الأفارقة والمتمثلة بتتويجه laquo;ملك ملوك أفريقياraquo;، وإنما الذي كسر حدة القساوة الدولية كانت الصفقة المليارية لتنظيف تداعيات حادثة laquo;لوكربيraquo;.

عندما اشتدت تعقيدات الوضع في مصر والناشئة عن احتلال إسرائيلي وتعطيل بسببه لقناة السويس التي هي المصدر الأساسي للعملة الصعبة، بدأ السادات عملية ترقيع للحالة سالكا أسلوب تغيير الحكومات والوجوه عسى ولعل يهدأ الرأي العام الذي لا يرحم لكثرة الأثقال النفسية والمعيشية. وفي نهاية الأمر وجد أن الحل الذي لا حل غيره هو توظيف ما كان سلفه الرئيس عبد الناصر بدأه لجهة إعادة بناء القوات المسلحة التي منيت بهزيمة كبرى يوم 5 يونيو (حزيران) 1967 وحدد عبد الناصر هدفا له بعدما وضعه الرأي العام المصري أمام اختبار حساس برفض التنحي الطوعي. وهذا الهدف هو ما لخصه الشعار المرفوع منذ المساندة السعودية - الكويتية - الخليجية - الليبية في القمة العربية في الخرطوم: إزالة آثار العدوان.

كان الجيش المصري عند حسن التقدير، وخاضت مصر الساداتية الحرب بجنرالات متميزين وطيارين أكفاء وقوات شجاعة ومدربة خير تدريب. وإلى هذه المقومات كانت وقفة الرأي العام المصري متميزة، حيث الحماسة للثأر من الهزيمة جمعت المواطن العادي مع المواطن المقاتل وبدت مصر بذلك أنها في أدق حالات التماسك، مما جعل النصر يتحقق وتسلك مصر طريقها إلى مرحلة التداوي من الهزيمة.

لو لم يفعل الرئيس السادات ذلك لكان نظامه تهاوى أمام المظاهرات الطلابية والعمالية التي لم تفد أساليب أجهزته الأمنية في كسْر إرادة المتظاهرين، كما أن زجه بعشرات السياسيين والمثقفين والصحافيين ورجال الدين في السجن لم يفده بعد ذلك في شيء. وإذا كان هنالك من يرى أن خوض الحرب جعل نظام السادات لا يتهاوى، إلا أن ما تكشفت عنه بعض الحقائق بعد ذلك جعلت مكانة مصر تبدأ في التراجع. وهذا في حد ذاته يحتاج إلى معالجة منفصلة من كاتب مثل حالي عايش ميدانيا وفي الكواليس دقائق ذلك الزمن الصعب، فنحن الآن أمام مقاربة بين حالة مضت (الحالة التي كانت عليها مصر التي تسلم زمام أمرها وأثقالها أنور السادات وحالة تعيشها سورية الآن التي تسلم زمام أمرها مضطرا وليس مختارا الدكتور بشار الأسد). هنالك احتلال للأرض السورية منذ عام 1967 وهنالك حالة طوارئ يفرضها الحذر نتيجة بقاء حالة الاحتلال وفي الوقت نفسه الشعور الدائم للنظام بأنه مستهدف. كما هنالك صدمات معنوية وخيبات أمل وإيحاءات بالحلول التي لا تنفذ. ومن الجائز الافتراض أن الرئيس بشار وصل إلى المرحلة التي سبق أن وصل إليها قبل 38 سنة الرئيس السادات، لكن الفرق بين الحالتين هو أن مطالب المصريين شعبا وجيشا كانت قرار خوض المعركة وهذا سهل على السادات اتخاذه، أما بالنسبة إلى السوريين الآن شعبا وجيشا فإن مسألة خوض المعركة ليست بالقوة التي كانت في مصر. لكن مع ذلك فإن قرار خوضها هو العلاج ما دامت إسرائيل لا تنسحب طوعا من الجولان وتسوق ضمنا فكرة اعتباره مثل إسكندرون أرضا تتخلى عنها سورية بالتراضي، وما دامت الإدارات الأميركية لا تقدم سوى الأقوال وتجاريها في ذلك الحكومات الأوروبية.

ولا ريب أن الرئيس بشار يدرك أن هذه الاتصالات العربية الخجولة وبالذات الاتصال الإماراتي والكويتي والقطري واللبناني به من باب اللياقة ورفْع العتب لا أكثر لا تحل الأزمة المتفاقمة. كما لا ريب أن الرئيس بشار يدرك ضمنا أن خوض مواجهة مدروسة وضمن مبدأ دفْع القوات المحتلة بالتي هي أحسن إلى خارج الحدود وهذا حق مشروع لنظامه ولا يجوز لأي طرف دولي الاعتراض عليه، يبقى أفضل من عدم الإقدام على ذلك وإبقاء الوضع عرضة للمزيد من المظاهرات والارتباكات التي قد تؤدي إلى مواجهة دموية تتحكم بها غرائز بعض القوى المدنية وتقاليد بعض القوى الأمنية ولا يعود ينفع في احتوائها التغييرات الطفيفة ثم الجذرية في بعض المناصب. هذا إذا لم تتطور الأمور إلى وضْع أشبه بالوضع الذي انتهت إليه ليبيا وقبْلها العراق. بل إن خوض معركة تحرير أرض محتلة من شأنه توحيد الصف الداخلي وتوسيع مساحة الالتفاف حول الرئيس بشار. كما أنه اختبار لمصداقية الحليف الإيراني بحيث إما يزج بإمكاناته وإمكانات عمقه اللبناني المتمثل في حزب الله إلى جانب النظام السوري الحليف وبذلك يكون الخيار من جانب الرئيس بشار الأسد للحفاظ على العلاقة متينة مع النظام الإيراني في محله، أما إذا كان هذا الزج المشار إليه لن يحدث ويتصرف أهل الحكم في إيران كلاما لا تفعيل له فإن الرئيس بشار يكون اكتشف نوايا تحتاج إلى الكشف عنها، وعندها يسلك الطريق الذي تشكل العلاقة مع إيران عقبات ومخاطر لسورية منه.

وإلى اختبار مصداقية الحليف الإيراني هنالك أهمية معرفة حقيقة نوايا الصديق التركي الذي يمطر الرئيس بشار بالنصائح وفي الوقت نفسه يؤازر خصومه، وهذا معناه أن الأردوغانية تلاعب النظام في سورية على طريقة تلاعبها مع صديقها معمر القذافي. وقوام هذا الملعوب هو نوع من المراهنة التي تعود على تركيا أردوغان بالكسب المضمون.. أي زيادة في التوضيح تكسب إذا صمد النظام وتكسب إذا تهاوى أمام خصمه الإخواني. والملعوب مكشوف والمجادلة في شأن صحته أم عدمها عقيمة.

ويبقى الأهم من هذا كله هو أن خوض المواجهة المحسوبة سيحقق التفافا عربيا حول الحكم البشاري الذي يترجم الممانعة للمرة الأولى إلى فعْل، وسيشكل خوض المواجهة رافعة للسعي المتعثر من أجل قيام دولة فلسطينية طبقا لـlaquo;مبادرة السلام العربيةraquo;، وسيجعل وسطاء التسوية يتصرفون بنزاهة وسيبعد احتمال حدوث الاشتباك الطوائفي داخل سورية. وبعدها يخوض الرئيس بشار وهو أكثر اطمئنانا غمار البدء بمرحلة تكون الصفحة الجديدة فيها متحررة من صنميات الماضي فكريا وحزبيا واقتصاديا واجتماعيا وأمنيا. وبذلك لا تزلزل الأرض السورية زلزالها ولا يضطر الرئيس بشار إلى معاودة التخصص في طب العيون وفي لندن بعد انقطاع دام أحد عشر عاما. وفي عاصمة الضباب يعيش مع عائلته الصغيرة هادئ البال في عاصمة أحبها لمملكة كانت الوطن الثاني لزوجته وما زالت وطن جد وجدة أولاده الذين من حقهم أن يذوقوا طعم العيش المستقر الذي يتوق إليه كل أطفال العالم العربي ومعهم أهاليهم ومن قبل ذلك أجدادهم.