عبدالعزيز المقالح
يطرح تراجع القاضي ريتشارد غولد ستون عن التقرير الخاص بإدانة الكيان الصهيوني في قصف المدنيين العزل في عدوانه البشع على غزة أثناء حرب أواخر 2008 و2009 وما ارتكبه ذلك الكيان من جرائم ضد الإنسانية، وجرائم حرب، مسألة موت الضمير القضائي العالمي وما يمثله ذلك التراجع من فاجعة أخلاقية تتعلق بتأثير العنصرية والانتماء الديني . فالقاضي غولد ستون كما هو معروف ينتمي إلى الديانة اليهودية . وكان كثير ممن تابعوا التقرير قد احترموا تخليه عن التعصب، وإن كان ذلك التقرير الذي شارك في إعداده وصياغته لا يخلو من انحياز عندما ساوى بين الجلاد والضحية باتهام الفلسطينيين بأنهم يقتلون المدنيين أيضاً، وهي تهمة باطلة، ومع ذلك فقد تقبل المجتمع الدولي التقرير على علاته ورأى فيه بداية قانونية شبه منصفة لجرأته المحدودة في إدانة الكيان الصهيوني وما قام به في غزة من قتل ودمار .
ولعل ما يستحق الإشارة باهتمام أن القضاة زملاء غولد ستون في إعداد التقرير قد سارعوا إلى إدانة تراجعه، وإلى وصفه بأنه فاقد المصداقية وواقع تحت الضغوط الصهيونية التي بدأت تطارده منذ إعلان التقرير المذكور حتى لحظة تراجعه . وكان عليه كقاض أن يدافع عن التقرير وأن يصر على موقفه القانوني وأن يثبت أن القضاء، والقضاء الدولي خاصة، لا ينبغي أن يخضع للمؤثرات السياسية والانتماءات الحزبية أو الدينية ليشعر البشر في هذا العالم بأن القضاء مستقل وعادل، وأنه يشكل ضمانة حقيقية للأفراد وللشعوب ولا ينطلق سوى من المصلحة الإنسانية وإثبات الحقيقة بغض النظر عن انتماء هذا القاضي أو ذاك إلى هذا البلد أو ذاك، أو إلى هذه الديانة أو تلك .
لقد خيب القاضي غولد ستون في تراجعه المشين ظن العالم، وخان زملاءه القضاء الذين شاركوه في وضع التقرير المشار إليه، وكان بعضهم يتحفظ على ما كان قد ورد من إدانة لحماس بتهمة المشاركة في ارتكاب جرائم ضد المدنيين، لكنهم وافقوا على ذلك التجاوز حتى لا يتنصل منه هذا القاضي الذي ثبت أنه كان يبيت التنصل من التقرير ومن إدانة الكيان الصهيوني ومذابحه وأفعاله البشعة التي أدانها العالم بأكمله بعد أن ثبتت بالصورة والصوت، وسبق لمنظمات حقوقية وقضائية كثيرة أن حكمت على قيادات الكيان بما هو أسوأ مما ورد في التقرير، وصار بعض هؤلاء القادة غير قادرين على السفر خارج فلسطين المحتلة حتى لا يتعرضوا للاعتقال والمحاكمة، ولن ينفع معهم أن يتراجع غولد ستون وانتكاسة مواقفه عما كانت عليه أثناء إعداد التقرير ومتابعة الحال على أرض الواقع .
من الواضح أن القاضي غولد ستون على الرغم من مراعاته جانب الكيان الصهيوني في تقريره قد تعرض منذ نشر التقرير لحملات من الكيان الصهيوني وقادته ومن الجاليات الصهيونية في أنحاء العالم، وتلقى المزيد من التهديدات والشتائم، ولعل من أخف التهم التي ألصقها به المتعصبون أنه خائن لديانته ولنفسه . ولكن القاضي صاحب الضمير لا يمكن أن يتراجع عن حكم شارك عن وعي ومعرفة في إعداده مهما كانت المواجهات والتحديات، فالقاضي النزيه والصادق أكبر من أن تؤثر في مواقفه الاعتراضات المغرضة والانتقادات الحاقدة . فلا يحتمل ضمير أي قاض عادل وسوي أن يكون له حكمان متناقضان في قضية إنسانية واحدة، لهذا فمن المؤسف أن يتخلى القاضي غولد ستون في لحظة ضعف عن ضميره القضائي، وأن يخون زملاءه والقضية الإنسانية التي أجمع على عدالتها سكان المعمورة كافة .
التعليقات