رشيد شريت
في الأسبوع الماضي كنت قد تطرقت إلى موضوع تغطية قناة الجزيرة للثورة العربية مركزا على سؤال:هل فقدت الجزيرة اتزانها الثوري؟ وذلك بتركيزها على ثورة دون أخرى، الأمر المتنافي مع مبدأ الرسالة الإعلامية عموما ومسار القناة خصوصا، كما أننا وفي السياق نفسه، طرحنا سر التوقف المفاجئ للبرامج الحوارية التي صنعت شهرة الجزيرة، بيد أننا لم ننته من صياغة الأسئلة حتى تصاعدت وتيرة الثورة، ولكن هذه المرة من داخل الجزيرة نفسها! ولعل أبرزها كان استقالة الإعلامي غسان بن جدو وإن لم تكن مقنعة، إلا أنها كانت كافية للدلالة على المنعطف الجديد الذي تمر منه القناة.
ربما كان من الممكن استساغة استقالة الإعلامي غسان بن جدو من القناة في توقيت غير هذا التوقيت، فقد سبقته استقالة إعلاميين آخرين من الطراز الرفيع كيسري فودة وحافظ ميرازي وحسين عبد الغني... علاوة على استقالة الأسطول الشيك النسائي الفتان، جمانة نمور ولينا زهر الدين وجلنار موسى والتونسية نوفر عفلي والسورية لونا الشبل... لكن أن تتوقف البرامج الحوارية ويتم إبعاد عدد من الوجوه التي أسست لماركة الجزيرة، فالقضية أكبر؟ وجواب السيد وضاح خنفر حينما رد بأن سبب توقف البرامج هو تلاحق أحداث الثورات العربية على مدار الساعة؟ لا يبدو كافيا ولا أظن أن أحدا سيقتنع بهذا الجواب التبسيطي! علما بأن المشاهد ليمل ويسأم من طول المتابعة المباشرة والتعليقات والتمطيطات الفجة لثورة بعينها وتغييب لأخرى، بل إن جواب السيد خنفر نفسه يعكس حجم المأزق الحقيقي الذي تشهده القناة، وكذا الانقسام الداخلي أو التدخل الخارجي أو حتى فقدان القناة لبوصلة عمل واضحة لتغطية الثورة العربية الكبرى الممتدة في كل شبر من الوطن العربي غير مستثنية أي مكان، على الرغم من حالة السكون التي قد تبدو في بعض البلدان، ولكنه السكون الذي يسبق العاصفة.
وتبقى حالة الإعلامي غسان بن جدو فريدة من نوعها، على المستوى الموضوعي والذاتي، فالرجل من أكثر الإعلاميين كفاءة واتزانا ومهنية، وهو يشغل منصب مدير مكتب الجزيرة بلبنان، لبنان الطائفية والمقاومة، والساحة المستباحة عربيا وإقليميا، وملعب الصراعات بالوكالة، ومع كل هذا التعقيد الجيوستراتيجي والحساسية الإعلامية والصراعات السياسية المتدثرة بالكساء الطائفي، بل صراعات أبناء الطائفة الواحدة نفسها، ومع كل هذا استطاع الرجل أن يحفظ شعرة معاوية مع جميع الخصوم والفصائل اللبنانية والقوى الإقليمية المجاورة، رغم ميله وتعاطفه الصريح مع تيار المقاومة، ومهما يكن فالإعلامي إنسان له شعور وكرامة وأنفة وقضية ولا يمكن أن يتجرد منها مهما حدث. والحال أن غسان بن جدو شخصية يمثل ظاهرة إعلامية فريدة من نوعها، فهو متشرب بثقافة المقاومة إلى النخاع'ولكن له قدرة هدوء وضبط نفس رهيبة جدا، في ثنائية من أعقد الثنائيات التي لن تستقيم إلا في بلد كلبنان بكل تناقضاته المذهبية والسياسية والداخلية والخارجية. ولم تتردد القناة ولو لحظة واحدة في الدعم اللامشروط له حين دب الخلاف بين الإعلامي الثائر عباس ناصر وغسان، حيث اصطفت القناة إلى جانب غسان، ولكن محاولة إرضاء عباس إلى أبعد الحدود وأقصى الدلال الإعلامي.
إن محاولة الجزيرة الاستغناء عن الإعلاميين النجوم هو منعطف إعلامي كبير قد يجر عليها نتائج معاكسة تماما، فلقد كانت القاعدة الذهبية الإعلامية، أن أي مذيع وإعلامي يغادر الجزيرة لن يسطع نجمه، كما هو الشأن بالجزيرة، والقاعدة نفسها يمكن تطبيقها على الجزيرة في كون أي استغناء عن أي نجم إعلامي ومعد لبرنامج سيصعب بأي حال من الأحوال تعويض الفراغ الذي سيتركه! لأن الجزيرة عرفت بانفتاحها على الرأي الآخر ولكن أيضا ببرامجها'الناجحة. وأن تظن الجزيرة بأنها قد تستطيع أن تحافظ على ريادتها من دون الإعلاميين النجوم فهذا رهان خاسر سلفا، ومغامرة قد تهز عرش القناة هزا لن ينفع معه استدراك! والحال أن تألق النجوم ما كان لولا الجزيرة وريادة القناة ما كان لها لترى النور من دون هذا الأسطول من الإعلاميين الذين بدأوا مغمورين وانتقلوا في سرعة الضوء إلى إيقونات إعلامية، علاوة على قدرتهم على التطوير الذاتي، ثم نهم المشاهد العربي ما بين 1996-2010 إلى مثل هذه البرامج الحوارية المفتوحة العالية السقف المستوعبة تقريبا للجميع.
ولنعد إلى أسباب استقالة الإعلامي غسان بن جدو على الأقل في شقها الظاهري الذي أسفر عنه، حيث اعتبر أن القناة خرجت عن المهنية والموضوعية المعتادة وغدت غرفة لعمليات التعبئة والتحريض. قد نشاطر الأستاذ الكريم غسان على أن القناة فعلا قد خرجت عن المهنية ولكن أية مهنية يقصد؟ لأن مساحة التأويل واسعة ولا تكاد تلك العبارات التي تناقلتها الجرائد والمواقع الإلكترونية، وفي مقدمتها يومية السفير اللبنانية المتفردة بسبق نشر خبر الاستقالة، تفصح حقيقة عن مكنون المهنية المقصودة، بيد أنه سرعان ما سنفهم المهنية المقصودة انطلاقا من سياق العبارة، حينما أردف قائلا والعهدة دائما على المواقع، بان الجزيرة أضحت غرفة عمليات للتحريض والتعبئة'؟ وهنا لا يمكننا إلا أن نوجه أصابع الاتهام الناعمة إلى الأستاذ بن جدو نفسه الذي كان رمزا من رموز مقاومة الاستبداد والاستبلاد والفساد، ما يعني أنه كان أحد الجوقة السمفونية المحرضة على الثأر للكرامة المسلوبة والحرية المنهوبة، بل يكفي أن آخر حلقاته لبرنامج حوار مفتوح خصصها للثورتين العظيمتين بتونس الخضراء موطنه الأصلي، ثم بعد ذلك حلقة حوارية مفتوحة عن ثورة ميدان التحرير بعد سقوط مبارك؟ فإذا كانت الجزيرة قد تحولت إلى غرفة تحريض فبفضل الأستاذ غسان بن جدو وباقي الأسطول المشارك! وهذه لعمري ليست بتهمة بل وسام شرف، فكل من ساهم في إسقاط نظام عربي فاسد وفتح المجال أمام المواطن العربي والإرادة الشعبية يستحق أن ينال أفضل جوائز التحريض التاريخية الخالدة. بيد أن أزمة الجزيرة الحقيقية أنها لم تبق وفية لرسالة 'التحريض'، حيث أصيبت بداء الضبابية وفقدان البوصلة! وأظنه لو حدث وشملت استقالة أو تصريحات الأستاذ بن جدو هذه العبارة وهي التقصير والكيل بمكاييل والضبابية الكبيرة لكانت الاستقالة أكثر إقناعا!
بيد أن السؤال الحقيقي الذي يجب ان تنصب حوله التحليلات ليس فقط أسباب استقالة الإعلامي غسان بن جدو بقدر ما يجب طرح سؤال إشكالي محوري وهو هل الأستاذ بن جدو جزء من الأزمة أم مجرد عنوان لأزمة الجزيرة؟ وفي كلتا الحالتين سنجدها تدور في محور الاستقالة، فإذا أخذنا بالشق القائل بأن الجزيرة قد تحولت إلى غرفة عمليات للتحريض والتعبئة، فهذا يعني أن بن جدو كان أحد أعمدة الغرفة بأدائه المتميز ما يشير إلى أنه جزء من الأزمة، أما إذا توقفنا عند الشق المتعلق بخروج الجزيرة عن مسار الرسالة المهنية فهذا مؤشر على أن الاستقالة ترجمة وعنوان للأزمة؟
إلا أنه وعلى الرغم من حبل المودة الذي يربطنا بالجزيرة كمشاهدين من الدرجة الثانية أو حتى سابقين، لها عليهم أياد بيضاء لن نتنكر لها، فإننا نعتبر أن المسألة أكبر وأعمق بكثير، ولها ارتباط بالسياق والتحولات السياسية الكبيرة في العالم العربي وتحرر الإعلامي القطري لكل دولة أنهت مرحلة الفساد السياسي السابق كتونس ومصر والبقية تأتي، مما يؤشر على أنه كلما تحرر بلد عربي ضاقت مساحة الجزيرة، طالما أن هناك اكتفاء ذاتيا لكل قطر، ولننظر إلى التجربة الإعلامية المصرية الوليدة وكيف فتح باب النقاش الإعلامي المصري على مصراعيه وفي جميع جوانبه السياسية والاجتماعية والفكرية. ولا أظن أن مواطنا مصريا أو تونسيا سيترك قنواته الحكومية والخاصة ليوجه نظره إلى قناة الجزيرة أو حتى إلى نسختها المصرية، هذا علاوة على عودة العديد من الكفاءات العاملة بقناة الجزيرة إلى مواطنها الأصلية بخبرات كبيرة ومعها رصيد مالي معتبر، طالما القيود قد رفعت والسدود قد انهارت. فلم يعد من داع للهجرة الإعلامية سواء للإعلامي المحلي أو حتى المشاهد،على اعتبار'أن الاهتمام بحراك ما بعد الثورة هو الشغل الشاغل للمشاهدين التونسيين والمصريين وغيرهم من المواطنين العرب. إن السؤال الصحيح الذي يجب أن تطرحه الجزيرة عبر مراكزها للبحث والتدريب، هو ما موقع الجزيرة من الخارطة الجديدة بعد تحرر الإعلام العربي أو جزء كبير منه؟ وأكيد أن القناة لن تطرح هذا السؤال لأنه بكل صراحة كابوس مرعب، لاسيما بعد حالة الانتشاء النرجسي الذي دخلته القناة، لا سيما بعد الثناء الكبير والمبالغ لعدد من وسائل الإعلام الغربية على اعتبار أن القناة كانت أحد أعمدة نجاح الثورة في تونس ومصر، وهذا صحيح ولا غبار عليه ونتيجة جهد مبذول ومستحق. ولكن المعادلة تغيرت بعد ذلك وبشكل مفاجئ لم يترك معها للقناة أن تجمع أنفاسها، خاصة عندما انتقلت الثورة الشعبية إلى مناطق خليجية مجاورة، ما جعل القناة في حيرة من أمرها، إما التغطية ومعها متاعب سياسية لدولة قطر، وإما التركيز على ثورة دون أخرى، وهو الخطأ الإعلامي الكبير الذي وقعت فيه القناة ومعها انقسام المشاهدين والمريدين حول مهنية الجزيرة، ثم تتوج بانتقال جذوة الثورة من الشارع العربي إلى أروقة ومكاتب القناة نفسها وما استقالة بن جدو ببعيد!
التعليقات