شريف عبدالغني

حينما زار الرئيس الفنزويلي هوغو شافيز العراق عام 2000، زادت شعبية هذا الزعيم القادم من أميركا اللاتينية في الشارع العربي. إنه يقاوم واشنطن بكل جبروتها ويأتي للبلد laquo;المارقraquo; المطرود من جنة واشنطن ويلتقي صدام حسين المنبوذ من سادة البيت الأبيض. كل زعامات العالم خشيت أن تمر طائراتها فوق بغداد منذ laquo;عملية الكويتraquo; باستثناء شافيز. كثيرون ثمـّنوا خطوة الرجل، واعتبروها ليست دعما لصدام بقدر ما هي مساندة لشعب عربي مضروب عليه أقسى أنواع الحصار لجريمة لم يرتكبها، وسياسات نظام لا حول له فيها ولا قوة.
من يومها دخل شافيز قائمة الزعماء laquo;اللاتينيينraquo; المعشوقين عربيا. قائمة يتصدرها الثائر الأعظم laquo;جيفاراraquo; وتضم أسماء بارزة مثل laquo;كاستروraquo; و laquo;أورتيجاraquo;. ولأننا شعوب عاطفية رحنا نهلل مع كل حركة يواجه بها شافيز laquo;العدو الإمبرياليraquo; أو إشارة تفيد أن الزعيم شوكة في حلق الولايات المتحدة. كالعادة انشغلنا بـ laquo;الصوت العاليraquo; والشعارات الرنانة والخطب الحماسية وأهملنا laquo;بوصلة العقلraquo; واللغة الهادئة والكلمات المحسوبة. انحزنا لزعماء laquo;المنصات الكلاميةraquo; على حساب laquo;رجال الدولةraquo;. فبينما شافيز يظل طوال الوقت يحدث طحنا لا ينتج دقيقا، كان جاره laquo;لولا دا سيلفاraquo; يتصرف بحكمة واتزان ويغلب مصلحة شعبه على صورته كزعيم. والنتيجة مشاكل اقتصادية بلا حدود في فنزويلا الغنية بالنفط، يقابلها تقدم دون سقف للبرازيل. أهل فنزويلا يشربون ويأكلون خطب الزعيم، وراقصوا السامبا يقفز 25 مليونا منهم من فئة laquo;المهمشينraquo; إلى laquo;الطبقة المتوسطةraquo;. لكننا لم نقارن بين حال laquo;فنزويلا شافيزraquo; ومكانة laquo;برازيل لولاraquo;، وأعطينا السمع للشعارات وولينا البصر شطر الخطابات. غابت البصيرة عنا لتنتقل العدوى إلى حبيبنا laquo;شافيزraquo;، فنجح بعد معاناة سنوات في الحصول بنسبة ضئيلة لا تتعدى %54 على تأييد مواطنيه في استفتاء على تعديل دستوري يسمح بإعادة انتخاب الرئيس لعدد غير محدد من الفترات. واضح أن حب الجماهير العربية له جعله لا يخيب أملها ويعشق السلطة على الطراز العربي.. للأبد!
ولما ظهرت النتيجة أطل شافيز بصحبة بناته وأحفاده مرتدياً قميصه الأحمر المميز، أمام الآلاف من أنصاره من شرفة القصر الحكومي، وأنشد النشيد الوطني للبلاد، وانطلقت ألعاب نارية في أنحاء المدينة احتفالا بما وصفه بأنه laquo;انتصار تاريخي حقيقيraquo;. وأضاف بعد أن ضمن خوض انتخابات جديدة بعد انتهاء ولايته العام المقبل 2012: laquo;ما لم تكن للرب مشيئة أخرى، وما لم تكن للشعب مشيئة أخرى، فهذا الجندي بالفعل -في إشارة إلى نفسه- مرشح مسبق لنيل الرئاسة للجمهورية 2012-2018raquo;. وتابع: laquo;للآن، لم يأت الأفضل بعدraquo;.
الرجل يعتبر أن فتح الطريق للبقاء الدائم في الحكم انتصارا تاريخيا، بينما جاره laquo;لولاraquo; يرفض رغبة شعبية كاسحة بتعديل الدستور حتى يبقى فترة ثالثة وفقط. الأسلوب العربي طغى على شافيز، فهو يريد البقاء في السلطة ليس عشقاً فيها لا سمح الله، بل لـ laquo;محاربة الإمبرياليةraquo; ولأنه -حسب قوله- بحاجة إلى وقت أطول من ذلك الذي تتيحه فترتان رئاسيتان من أجل إنجاح ما يسميه بـ laquo;ثورته الاشتراكيةraquo;. لذلك لم يكن غريبا وهو يسوق هذه المبررات لاحتكار السلطة أن يكون شافيز الوحيد عالميا الذي يؤيد ويبارك زعيمين عربيين أعلنا حربا مقدسة.. ليس على إسرائيل طبعا، وإنما على شعبيهما. القذافي أقسم أمام الكرة الأرضية بتطهير ليبيا laquo;شبرا شبراraquo; و laquo;زنجه زنجهraquo; من الرافضين لوجوده، فقوبل خطابه بصافرات الاستهجان والسخرية من الكرة الأرضية laquo;شبرا شبراraquo; و laquo;زنجه زنجهraquo;، باستثناء شخص واحد.. شافيز الذي انتقد بقسوة العمل العسكري الدولي ضد ليبيا واعتبره محاولة من القوى الغربية للاستيلاء على النفط، ونادى صديقه laquo;مقاوم الجرذانraquo;: laquo;لبيك قذافي لبيك.. وشعبك كله تحت نعليك.. وفنزويلا مفتوحة لـ laquo;سيفيكraquo; و laquo;ساعديكraquo; و laquo;معتصميكraquo; و laquo;خميسيكraquo; و laquo;هانبعليكraquo; و laquo;عائشتيكraquo;!
و laquo;الأسد الصغيرraquo; زأر في laquo;درعاraquo; و laquo;حمصraquo; و laquo;حلبraquo; و laquo;دمشقraquo; نفس زئير laquo;الأسد الكبيرraquo; في laquo;حماةraquo; قبل 30 سنة، فهاجت ضده كل حيوانات الغابة الدولية، إلا laquo;النمر شافيزraquo; الذي هاجم بشدة ما سمَّاها محاولات القوى الغربية الإطاحة بصديقه وحبيبه laquo;الأسدraquo; بالقوة، وزاد بقوله: laquo;الإرهابيون يتسللون إلى سوريا ويعملون فيها عنفاً وتقتيلاً، ثم بعد ذلك يُلقى باللوم على الرئيس دون أن يكلف أحد نفسه عناء التحقيق في أي شيءraquo;، منتقدا laquo;الجنون الإمبرياليraquo; الذي يسعى للهجوم على سوريا بذريعة الدفاع عن شعبها. وأضاف: laquo;يا لها من حيلة. لكن هكذا هي الإمبراطوريات، إنه الجنون الإمبرياليraquo;.
هنا يكتمل الحلف الثلاثي فكرا وعقيدة وجنونا..raquo;شافيزraquo; يبرر بقاءه في الحكم بمحاربة الإمبريالية ونصرة الثورة الاشتراكية، بينما تزداد أحوال الشعب سوءا، لكنه لا يعترف ويؤكد أن laquo;الأفضل لم يأت بعدraquo;. و laquo;القذافيraquo; لم يمل البقاء على رأس الشعب الليبي 42 عاما، وحينما يقولون له laquo;تنحraquo;، يقول: و laquo;هل أنا رئيس حتى أتنحىraquo;، ويقسم أنه سيبقى قائد ثورة للأبد وقيادة الشعوب جمعاء ضد laquo;العدوان الصليبيraquo; وتدميره وتفريق شمل laquo;ساركوزيraquo; و laquo;بيرلسكونيraquo; و laquo;أوباماraquo; وجعلهم يهيمون على وجوههم في مشارق الأرض ومغاربها. بل إنه يصعـّد مطالبه كل يوم، وأقصى ما يقدمه ظله في الحكم laquo;سيف الإسلامraquo; هو عمل نشيد جديد وعلم جديد للبلاد، والحد من سلطات الوالد، لكنه نسي أن الأب الزعيم يؤكد أنه بلا سلطات. و laquo;بشارraquo; يعتمد في بقائه على دحر laquo;الأشرارraquo; ومواجهة laquo;الاحتلالraquo; الإسرائيلي في الوقت الذي لم يطلق فيه رصاصة واحدة أو حتى يقذف laquo;طوبةraquo; ضد أصغر جنود laquo;الاحتلالraquo; المرابطين أمام ناظريه في laquo;الجولانraquo;.
حينما قلت لخالتي في القرية: laquo;ما تعرفيش.. مش شافيز بيساند القذافي وبشار في قتل الليبيين والسوريينraquo;.. فردت بحكمة السنين: laquo;جوّزوا مشكاح لريما.. والإتنين ما عليهم القيمةraquo;!