يقولون : أن تأتي متأخراً خير من ألا تأتي أبداً. هذا القول قد يكون صحيحاً إلا في السياسة، خاصة إذا كنت تتربع على قمة نظام بوليسي يقوم و يتمأسس على القهر والقوة والقمع وتكميم الأفواه، ناهيك عن الفساد المالي والإداري، واستئثار الأقارب والمحاسيب بالثروة والسلطة. فالتوقيت في السياسة عامل رئيس لا يمكن إغفاله. والنظام السياسي إذا نخر فيه المرض، ولم تستدركه بالعلاج في الوقت المناسب فلن ينقذه لا طبيب ماهر ولا دواء فعال. هذا المنطق يفهمه الأطباء أكثر من غيرهم، فلماذا لم يطبقه (الدكتور) بشار الأسد، وهو الذي كان طبيباً قبل أن يكون سياسياً؟
يبدو أن بشاراً لا يملك خيوط اللعبة، أو أنها ليست كلها في يده كما ينبغي، فرئاسة الجمهورية ورثها من أبيه، وشاركه فيها بقية الورثة : أخوه ماهر، وأخته بشرى، و والدتهم، وكذلك زوج أخته المتنفذ القوي آصف شوكت. ويقال أن ابن خاله رامي مخلوف هو مستثمر العائلة الأول وشريك أيضاً، وأن امتيازاته واستثماراته ملك للجميع، أبناء الرئيس الراحل، وكذلك الأخوال والمحاسيب. لذلك فبشار هو كما يقولون واحد من عشرة، فهو لا يعدو أن يكون الرأس الذي يطفو على السطح من جبل الجليد، أما ما تحت الماء فهو الجزء الأكبر والمؤثر والممتدة قوته وتأثيره حتى الأعماق. لذلك لا أعتقد أن بشاراً قادرٌ على منع نظامه الذي ورثه من أبيه من الانهيار. فالإصلاحات التي أعلن عنها مجلس وزرائه الجديد جاءت متأخرة، والدواء إذا أتى متأخراً يكون عديم الفاعلية كما ذكرت سابقاً.
ومهما يكن الأمر فإن سقوط بشار أصبح حتمياً كما تقول كل المؤشرات، أما نتيجة السقوط فمفتوحة على كل الاحتمالات، إلا أن الاحتمال الأقرب هو الحرب الأهلية ، فليس ثمة قوة على الأرض السورية ndash;للأسف - قادرة على تجميع الفسيفساء الطائفي والإثني في سوريا، بعد أن قضا الأسد الأب ومن بعده الابن خلال خمسين عاماً على كل القوى المحتملة لخلافة النظام.
سقوط بشار ونظام البعث سيكون بلا شك مدوياً، وسيخلط من الأوراق ما يجعل المنطقة برمتها على مشارف عهد جديد، لا علاقة له بالعهد الذي نعيشه الآن، ولا يستطيع أحد استشراف شكله، ولا القوى المؤثرة على توجهاته والمتحكمة في رياحه.
أول المتضررين هم بلا شك الإيرانيون، فقد بنوا كل إستراتيجيتهم، واستثمروا المليارات في نظام البعث السوري، رغم عداء نظام الملالي التاريخي للبعثيين العراقيين، غير أن التقارب الإيراني مع نظام البعث السوري كان باعثه (طائفياً) محضاً ولم يكن حزبياً، حيث أن النظامين السوري والإيراني ينتميان إلى طائفة الشيعة، وإن اختلفا في التقسيمات والتفرعات، فالإيرانيون شيعة جعفرية في حين أن الأسد ينتمي إلى طائفة الشيعة العلويين، والذي يسميهم البعض الشيعة النصيريين.. كما أن حزب الله اللبناني هو الخاسر الثاني بلا شك، فالحزب يتلقى أسلحته ودعمه، فضلاً عن مساندته السياسية، من إيران مروراً بالسوريين، وعندما يسقط بشار يعني أن طريق الدعم الإيراني سيغلق أو يكاد، الأمر الذي سيجعل قدرة حزب الله على المناورة، واستقطاب الدعم المسلح في غاية الصعوبة؛ ولا شك أن هذا السقوط سيغير جغرافية القوى المؤثرة في لبنان حتماً
سوريا مرشحة أكثر من تونس ومصر وليبيا، بل واليمن للانهيار. وكل من قال غير ذلك فهو لم يقرأ التاريخ جيداً. نظام الأسد منذ الأب المسجى جثمانه في قبره في القرداحة، حيث القبيلة والطائفة والحمية، يقوم على الخوف، والقمع، وسحق كل من ينبس ببنت شفة، كل ذلك يتم تحت مظلة قانون الطوارئ المطبق في سوريا منذ ما يقارب من نصف قرن، وتتم ممارسة سحق المعارضين وسحلهم من خلال محكمة أمن الدولة العليا. وعندما يتخلى النظام الحاكم عن هذا القانون، وعن المحكمة، يعني أنه تخلى عن أهم أسباب وجوده. ومعروف في كل أنظمة القمع والسحل البوليسية أن النظام إذا بدأ بالتراجع وتقديم التنازلات، يتقدم معارضوه إلى الأمام أكثر، ويكسبون مساحات أكبر، تجعلهم في وضع أقوى على تضييق الخناق عليه شيئاً فشيئاً، ليجد النظام نفسه في نهاية المطاف محشوراً، كل هَم قادته والمتنفذين فيه النجاة من المصير الدامي الذي ينتظرهم. الوحيد الذي هرب وتفادى المحاكمة والعقاب هو ابن علي حاكم تونس المخلوع؛ الرجل في تقديري كان أكثر الرؤساء المخلوعين تواؤماً مع الواقع، فرئيس الدولة البوليسية مثل اللص أو المجرم، إذا لم يتدبّر طريقة للهرب مبكراً قبل السقوط فإن مصيره الحتمي إما السجن أو المشنقة؛ هرب ابن علي، فنجا حتى الآن من المشنقة، بينما كابر حسني ومبارك وبنوه وها هو حبل المشنقة يقترب من أعناقهم شيئاً فشيئاً.
التعليقات