خالص جلبي

مدينة (خان أرنبة) تقع على تقاطع هام في الجولان السوري وكان حظ إحدى بناتي أن تدخل تجربة مواجهة مع النظام الشمولي البعثي هناك فقد دخل الأستاذ (الموجه الحزبي) يوما إلى الصف وتوجه إلى الطلبة من ذكور وإناث فقال: هل هناك أحد غير بعثي في هذا الصف؟
فرفع ثلاثة من الطلبة المنكوبين بالطاعون البعثي أصابعهم كان أحدهم (طالبة).
قال الأستاذ: إذاً سوف نوزع عليكم استمارة الانتساب للحزب!
وفي اليوم التالي كان الطلبة الذكور قد نالوا الحظوة بالانتساب للحزب القائد وبدؤوا بقراءة ترانيم الصباح من إنجيل القائد الذي يحكم إلى الأبد. وبقي في الفصل متمرد واحد (أنثى) تشبثت بموقفها أنها لن تنتسب للحزب.
قال لها الأستاذ: لماذا لم تنتسبي إلى الحزب؟
قالت الطالبة: هل الانتساب للحزب إلزامي؟
ارتبك الأستاذ وابتسم ابتسامة صفراء وقال: بالطبع ليس الانتساب إلزاميا، ولكن الانتساب للحزب يمنحك العديد من المزايا، وبدأ يعدد بركات الحزب من تأمين الوظيفة ودخول الجامعة والانتساب للجيش والانخراط في المخابرات وفتح الدكان وصك الزواج.
أصرت الفتاة على موقفها وقالت: لن انتسب للحزب!
طلبها الأستاذ على انفراد حتى لا تحدث (شوشرة) في الصف وقال لها: اصدقيني الخبر فإن كان والداك قد (خوفوك) أو مارسوا ضغطاً عليك أن ترفضي الانتساب إلى الحزب فلسوف نتولى أمرهم.
قالت: لا.. والامتيازات لا أريدها ووالداي تركا لي حرية الاختيار وأنا اخترت ألا أنتسب للحزب، وأكرر سؤالي هل الانتساب للحزب إجباري؟ ارتبك الأستاذ هذه المرة أكثر وامتعض وبدت على وجهه علامات الغضب فلم يواجه حالة استعصاء نادرة مثلها، وفي العادة ينضم الجميع للحزب خوفا ورهبا ورغبا مثل الحملان الوديعة؛ فأحال المسألة برمتها إلى مدير المدرسة كي يعالج هذا التمرد الخطير في عقول الشبيبة التي يغسلونها على مدار الساعة.
وفي اليوم الثالث استدعى المدير الطالبة وأكرمها بمقعد وثير وابتسامة عريضة وتهليل مجيد ثم فتح فمه فقال: أنت من خيرة الطالبات ونحن نبني عليك الآمال والحزب يتطلع إلى أن تنتسبي إليه وتشاركي في النضال بين صفوفه!
سكتت الطالبة هنيهة والمدير يتأمل تعبيرات وجهها، وأجابت بهدوء:
هل الانتساب للحزب إجباري؟
صعق المدير وأجاب بانفعال وقد ارتفعت طبقة صوته: لا.. لا.. بالطبع ليس إجبارياً.. ولكن ثم بدأ يعدد المحاسن اليوسفية والدرر اللامعة لإنجازات الحزب، وعندما ختم ديباجته قالت الفتاة باختصار وإصرار أكثر من الأول؛ طالما كان الانتساب للحزب ليس إلزاميا فلن انتسب للحزب.
هذه.. اللا.. اللعينة أحدثت إرباكاً في إدارة المدرسة ورأوا فيها بادرة خطيرة من التمرد من طالبة تافهة مثل انتشار وباء من وراء فيروس لا علاج ولا لقاح له؟ فيروس..لا..
عندها انتقلوا إلى الوعيد والترهيب فكانت النتيجة نفسها.
وكانت هذه الجملة تشكل معادلة صعبة ليس لها حل في رياضيات الحزب: quot;قولوا لي هل الانتساب للحزب إجباري؟quot;
فلما سقط في أيديهم اعتبروا أن عقل الطالبة قد تسمم. وأن مساً من الجنون أصابها. وأن خلفيتها بورجوازية. وأن تربيتها عفنة رجعية جداً. ولما يئسوا منها خلصوا نجيا وتركوها على أمل التمكن من إرادتها في مناسبة أخرى.
فهذه هي قصة ما يجري تحت النظام الشمولي. كما تحكي القابلية للاستعمار وكيف يولد الاستعمار، كما تحكي قوة (لا) وأن استعمار الناس يتم بأيديهم وأن الشيطان ليس له سلطان إلا على من اتبعه من الغاوين. وأعظم آفة يتعرض لها مجتمع تحوله إلى مجتمع كله حزب من المنافقين. وهم بممارسة (الإكراه) حولوا الأمة إلى قطيع من الخائفين.
إن بركات الحزب كثيرة ولكن ينقصه مزية واحدة حرمان الإنسان من (الاختيار) ومعها يحرم من كل (إنسانيته) ويتحول إلى (شيء) من الأشياء. ومعها يخسر الأبعاد الثلاثة له كإنسان: quot;الاستقلالية والإرادة والتفكيرquot;. ليتحول إلى كائن دماغه مسطح مثل حدوة الحصان؛ فهذه هي مصيبة الأحزاب الشمولية.
إنها بكلمة مختصرة قتل الإنسان بالجملة والمفرق. فهل فهمتم لماذا انفجرت سوريا؟