محمد نورالدين

ليست quot;التفاصيلquot; التي يقال،وعن حق غالبا، أن الشيطان يكمن فيها،quot;تفصيلاquot;.
وينطبق ذلك أكثر شيء على البلدان والمجتمعات التي لم تنجح بعد في إرساء هويات حديثة تتجاوز مكوناتها الأولى،quot;البدائيةquot; غالبا.
وليست العلاقات الدولية استثناء من هذه النظرة.اذ أن الدول بما فيها العظمى كانت تقف جهودها لمعالجة مشكلة معينة عند بعض التفاصيل.
لكن الأخطر ان تكونquot;التفاصيلquot; احيانا هي quot;بيت القصيدquot; وأساس النظريات الاستراتيجية التي تغلف نفسها احيانا أيضا بشعارات براقة فيما تكون quot;الأجنداquot; في مكان آخر.
لم يكن وزير الخارجية التركي أحمد داود اوغلو في كتابه العمق الاستراتيجي إلا واحدا من أولئك المنظّرين وواضعي الاطار العام للاستراتيجيات الكبرى لبلدانهم وهي هنا تركيا.
والكتاب بالفعل مطالعة عميقة في كل أوجه الجيوبوليتيك التركي بماضيه العثماني وامتداده الأوروبي.
وقد سعت تركيا في عهد حزب العدالة والتنمية الى تطبيق هذه النظريات ونجحت بذلك إلى حد كبير.
وانسحبت صورة تركيا الجديدة على الواقع العربي والإسلامي والإقليمي في شمالها وغربها وشرقها.غير ان الاختراق التركي الأساسي تم في quot;الجسم العربيquot; وفي خاصرتين رئيسيتين: فلسطين وسوريا.
باتت صورة تركيا إيجابية لدى الإنسان العربي بسبب وقفات رجب طيب اردوغان وغيره من دافوس إلى القدس وغزة وما الى ذلك.
ومع سوريا بل بفضلها أمكن لتركيا أن تدخل البيت العربي على حصان أبيض بل بجناحين أيضا.
كان فتح القوميين العرب البعثيين في دمشق باب بلادهم والعالم العربي أمام أحفاد العثمانيين مهما جدا بعدما كانوا الجدار المجابه لتركيا الطورانية منذ بداية القرن العشرين ثم تركيا المديرة ظهرها للعرب والمسلمين في عهد اتاتورك ثم تركيا الاسرائيلية في الحرب الباردة وحتى العام 2002.
لم تعد تركيا تلك العدوة بل الشريكة في الهمّ والمستقبل. ولم يكن ينقص فتح السوريين الباب لتركيا سوى ان تدخل الدراما التركية الى كل بيت عربي باللجهة السورية التي أصبحت بفضل مسلسل باب الحارة عنوانا للانتشار والاعجاب.
لكن النظرية الاستراتيجية التي رسمت في quot; العمق الاستراتيجيquot; واجهت تحديات كبيرة وجدية مع بدء الثورات في العالم العربي.
لم تعد تركيا تلك الجهة المحايدة والتي تقف على مسافة من الجميع أنظمة وشعوبا.
وكان اتخاذها مواقف واضحة مما يجري داخل كل بلد عربي دخولا في quot;التفاصيل الشيطانيةquot; التي وإن بدت تفصيلا لكنها هزّت الأسس الاستراتيجية التي قام عليها كل المشروع التركي الجديد في ان تكون تركيا قوة ناعمة وذات اقتصاد قوي تنتمي الى عمق استراتيجي مسلم وعربي وquot;عثمانيquot;.
استسلمت تركيا لوهم quot;فائض القوةquot; و quot;فائض الثقة بالنفسquot; لتمارس أدوارا أقل ما يقال فيها انها أكبر منها ولا تليق ببلد يريد ان يكون قوة اقليمية عظمى تمارس ايضا دورا عالميا في بعض القضايا.
وهمُ فائضَي القوة والثقة أوقعا تركيا في سلسلة من الأخطاء القاتلة التي تبدو quot;تفصيلاquot; لكنها أثرت سلبا على صورتها وحضورها ودورها ونفوذها ومستقبلها في المجال الجغرافي العربي وجزء من المجال الجغرافي الاسلامي.
مارست تركيا منذ اللحظة الأولى دور quot;الوصيquot; عندما دعا اردوغان الرئيس المصري حسني مبارك ومن قبله الرئيس التونسي زين العابدين بن علي للتنحي.
كان يمكن للقوة العظمى الوحيدة في العالم ان تمارس مثل هذا الدور الاستعلائي مدفوعة أولا بغطرستها وثانيا بقدرتها على التغيير او التأثير. ومنذ اللحظة الأولى أدركنا خطأ هذه الخطوة التركية في منطقة عربية متحركة جدا ولا تزال مشبعة بحساسياتها التاريخية والمذهبية والقومية.
وفي الحالة الليبية لم يكن ممكنا تفسيرا منطقيا للإزدواجية التركية التي لم تستطع وضع معمر القذافي في مصاف مبارك وزين العابدين رغم التشابه الكبير في الحالتين.
وفي الحالة السورية لم تكتف تركيا باللعب بالتفاصيل بل غرقت فيها ولم يعد اردوغان ولا وزير خارجيته قادرين على الإمساك بلسانيهما فكانت التصريحات والمواقف اليومية الضاغطة على دمشق ليس فقط من باب الإصلاح وهذا امر محق وعادل بل من باب تحريك الفتنة المذهبية بالتركيز عليها.وهنا كنا ايضا كما لو اننا امام مسلسل quot;الاستاذ والتلميذquot; لكثرة النصائح والدروس التي كانت انقرة ترسلها يوميا الى دمشق.في وقت لم يمارس أحد من العرب quot;أستذتهquot; على تركيا رغم ان الحالة متشابهة جدا في الحالتين.
خرجت تركيا من المواقف من حركات الشارع العربي بخسائر جسيمة أصابت بندوب صورتها الايجابية. ولم تقتصر الخسائر على بلدان quot;معتدلةquot; وأخرىquot;ممانعةquot; بل طالت صورة تركيا لدى الجميع.
والأخطر من كل ذلك وهو ما يثير العجب ان يكون جانب من quot;الوصاية والنصائح والدروسquot; التركية له بعد داخلي ضيق لكسب بضعة أصوات انتخابية هنا وهناك. ولو ان هذه الأصوات حاسمة في النتائج لبررنا quot; الفعلةquot; التركية لكن السلوك التركي كان quot;لعباً بنارquot; التفاصيل العربية ونربأ بواضعي النظرية quot;العميقةquot; الخاصة بquot;العمق الاستراتيجيquot; ان يقعوا فيها ويغرقوا في زواريبها حتى لكأن الذي يدير السياسة الخارجية التركية الآن شخص آخر غير داود اوغلو.
للأسف نقول ان صورة تركيا ودورها ما قبل الثورات العربية هو غيرها ما بعدها.
والأسس التي قامت عليها ما يسمى بquot;الشراكاتquot; بين تركيا والدول العربية لن تعود كما كانت. وفي ذلك ضربة quot;عميقةquot; لأسس المشروع التركي في المنطقة الشرق أوسطية وليس فقط في المنطقة العربية.