مأمون فندي
عرضت قناة laquo;الجزيرةraquo; أمس صورة طفل لا يتعدى العاشرة من العمر ذي ملامح مشوهة، قالت إن القوات السورية عذبته حتى الموت. شاهدت هذا في نشرة تغطي الحدث السوري. لكن عرض صورة طفل بهذا التشويه في وضح النهار والأطفال في حالة صحو، هو أمر مناف لأي أخلاق مهنية ومسيء إلى مشاعر المشاهدين، فلا توجد قناة محترمة في أي مكان من العالم تعرض هذه الصورة بشكل متكرر كخلفية لحوار طويل، تعاد الصورة مرات ومرات، مما جعل بعض من كنت أشاهد معهم الشريط يتقيأون حرفيا. فأي أخلاق مهنية تنتمي إليها laquo;الجزيرةraquo;؟ صورة بهذه البشاعة من الصعب أن تعرض في قنوات تلفزيونية محترمة مثل الـlaquo;بي بي سيraquo; والـlaquo;سي إن إنraquo;، إن عرضت فضمن شروط محددة تعتمدها الأسس التحريرية للقناة، فيجب أن يكون هناك مبرر تحريري قوي جدا ليسمح بعرضها، والقرار في هذا لا يتخذه صحافي عادي، بل كبير المحررين وأحيانا مدير المحطة نفسها، وإذا تمت الموافقة على العرض فإنه يكون لثوان قليلة مع تحذيرات شديدة ومتكررة قبلها للمشاهدين، خصوصا إذا كان توقيت العرض في الزمن الذي يكون فيه الأطفال متيقظين والأسر تشاهد التلفزيون مع أطفالها في البيوت. كما أن صورة كهذه وقبل أن تعرض على الناس يجب أن تكون القناة متأكدة من مصدرها، وألا يكون هناك أدنى شك حول مرتكبي هذه الفعلة الشنعاء، لأن عرض صورة بهذه البشاعة من دون مبرر تحريري قوي ومن دون التأكد من صحتها ومصداقيتها، يصنف في الإعلام المحترم على أنه laquo;حض على العنف ونشر الكراهيةraquo;، وهذه جريمة في المجتمعات الغربية. أما ما شاهدناه في الأمس على قناة laquo;الجزيرةraquo; أثناء عرض الصورة إياها، فكان جدالا عقيما بين صحافي سوري يشكك في مصداقية الخبر والصورة، في حين تدافع مذيعة laquo;الجزيرةraquo; عن قناتها بكلام غير مقنع وتقول إن لدى laquo;الجزيرةraquo; العذر، فهي لا يتسنى لها التأكد من مصداقية أخبارها وصورها لأن السلطات السورية لا تسمح للإعلام بدخول أراضيها، بينما كنا نحن المشاهدين تحترق أعصابنا ومشاعرنا وتستفز كل خلية من خلايانا وإنسانيتنا. هذا ليس إعلاما على الإطلاق بقدر ما أنه تشويه لرؤيتنا لأنفسنا وللدنيا من حولنا.
المصيبة أن محطة كـlaquo;الجزيرةraquo; لا تقوض مهنيتها فقط باختلاق القصص، ولكنها تقوض مهنة جيرانها في التلفزيونات الأخرى التي تحاول أن تتبنى الموضوعية والمهنية، كما أن ذلك ينعكس على الصحافة المكتوبة أيضا، لأنه عندما يكذب التلفزيون، ففي رأي العوام أن الصحافة برمتها تكذب، تلفزيونا وراديو وصحيفة. إذن، هذا السلوك غير المسؤول يطال الجميع. ومنذ أكثر من عام، كتب رئيس تحرير هذه الصحيفة مقالين؛ أولهما عن حادثة أبو عدس، ذلك الرجل الوهمي الذي قال إنه اشترك في اغتيال الحريري وهو شاهد على الاغتيال، وفي النهاية عرف الجميع أن القصة مختلقة، ثم كتب مقالا آخر عن غسل الأخبار المشابه لغسل الأموال، وكلاهما عملان يصبان في تقويض مصداقية الصحافة كمهنة. فتاريخ الصحافة العربية ليس حكرا على laquo;الجزيرةraquo;، وهناك أجيال كثيرة من الصحافيين في مصر ولبنان وبقية العالم العربي بذلت جهودا كبيرة وضحت بالكثير من أجل أن تكتسب الصحيفة العربية مصداقية تليق بالعرب كثقافة وحضارة ناضجة وليست حضارة مراهقين.
أسئلة مهنية كثيرة، هل أخذت قناة laquo;الجزيرةraquo; موافقة أهل الطفل على عرض صورته وعلى مدة العرض؟ وهل تأكدت من أن الطفل الذي عرضت صورته المعذبة في مكان مجهول هو ذات الطفل الذي عرضت جنازته في مكان مفتوح ومعروف وله اسم وأب وأم؟ أما في ما يخص النظام السوري، فإن صورة كهذه تتطلب أن يخرج الرئيس السوري نفسه ليعلق عليها، ويقول لنا هل هي صحيحة أم كاذبة، وإن كانت صحيحة فإن من قام بهذه الجريمة لا بد أن يعاقب أمام الرأي العام العالمي، وإذا كانت الصورة مفبركة أو ليست في سوريا، فعلى laquo;الجزيرةraquo; أن تعتذر علنا لكل من شاهد هذه الصورة، وعلى أسرة الطفل أن تتخذ الإجراءات القانونية اللازمة تجاه محطة تاجرت بابنها.
المنطقة تعاني تشويشا وتشويها لكل الأمور، بداية من تشويه الدين إلى الإساءة لسمعة الأفراد، ولم يبق لدينا سوى المؤسسات الإعلامية كي تصحح المفاهيم ولا تزيد الطين بلة في أن تغرق نفسها في مستنقعات الفساد وألاعيب الأنظمة على حساب ما بناه جيل سابق من الصحافيين العرب من تراكم في تراث المهنية.
التعليقات