ناجي صادق شراب

يشكل تعثر عملية الإصلاح السياسي في الدول العربية ظاهرة عامة، ومن تفاوتات نسبية في درجة الإصلاح من دولة إلى أخرى . وابتداء لا يمكن التسليم بفرضية أن الدول العربية غير منفتحة سياسياً على اتجاهات الإصلاح السياسي، لأن مطلب وقانون الإصلاح بات حتمية سياسية لا مندوحة عنها، بل إن الأخذ بأسباب أو بعض مظاهر الإصلاح يعتبر أحد المداخل والمناهج التي تأخذ بها أنظمة الحكم العربية مبرراً للبقاء والاستمرارية من ناحية، وتخفيف الضغوط الدولية من ناحية ثانية . ولأن ظاهرة الإصلاح والانفتاح الديمقراطي ظاهرة كونية عامة، ولم يعد للدول المتراجعة والمتأخرة في عملية الإصلاح الديمقراطي مكان مؤثر بين منظومة الدول . وعلى الرغم من الأخذ بالانتخابات نهجاً سياسياً في العديد من الدول، إلا أن بعض مظاهر الركود السياسي ما زالت مسيطرة، بل يمكن القول إن عملية الإصلاح الشاملة تحتاج إلى قوة دفع ذاتية أكثر منها خارجية، وإن قوة الدفع الذاتية الداخلية هي الطريق الوحيد للتخلص من كل عوارض الركود السياسي واللاديمقراطي، وعندما نتحدث عن عوامل ذاتية ننطلق من أبجدية سياسية في الإصلاح، وهي أن عملية الإصلاح لا يمكن أن تكون إلا داخلية، مع عدم إنكار دور العوامل الخارجية، فمهما كانت الضغوط الخارجية الداعمة للاتجاهات الإصلاحية والديمقراطية، تبقى العوامل الداخلية هي العقبة الكأداء أو الحجر غير المتدحرج الراسخ في بنية المنظومة القيمية لهذه الدول، فمن دون منظومة من القيم، وبيئة سياسية واجتماعية حاضنة ومستجيبة لمنظومة قيم الإصلاح، سنجد عملية الإصلاح تدور حول نفسها أو في دائرة جوفاء .

إذاً المطلوب أولاً بيئة سياسية دافعة، وثانياً منظومة قيم تؤمن بقيم الإصلاح بعيداً عن القيم الرافضة للإصلاح، وتحتاج أيضاً إلى الآليات والميكانيزمات التي تسمح بترجمة منظومة القيم إلى سلوكيات وبنى سياسية واجتماعية، تتوالد من خلالها عملية الإصلاح ذاتياً . فحتى تتم عملية الإصلاح لا يمكن أن تكون جزئية، أو شكلية أو تجميلية، وهذا ما يفسر لنا فشل انتشار الانتخابات كقوة دفع ذاتية . فالانتخابات مجرد وسيلة للوصول إلى الحكم، وقد لا تعني تغيراً جذرياً في منظومة القيم التقليدية التي تدعو إلى المحافظة على الوضع الراهن، بل قد تكون من وجهة نظر بعض القوى مجرد وسيلة واحدة للوصول إلى السلطة، كالحركات الإسلامية، أو بعض قوى المعارضة، أو حتى القوى السياسية الحاكمة، وهو ما يجعل من الانتخابات وسيلة خادعة للأخذ بأسباب الديمقراطية، أو مجرد ادعاء بأن نظام الحكم ديمقراطي، وهو ما يجعل أيضاً أنظمة الحكم تدور حول نفسها من الركود السياسي، أو هي أشبه بالبحيرة الراكدة التي نلقي بها حجراً فتتحرك قليلاً ثم تعود إلى ركودها، وهذا هو حال الانتخابات .

ولو أردنا أن نقف على أسباب انتشار حالة الركود السياسي لوجدنا أن أسبابها تتعدد وتتنوع، والمفارقة الكبيرة سنجد أن قوى الإصلاح ذاتها لا تتوفر فيها قوة الدفع الذاتية للإصلاح والتحليق بالنظام السياسي إلى المسار التلقائي للطيران، ودور هذه القوى وأقصد بها ضعف دور مؤسسات المجتمع المدني وتحولها إلى أدوات في يد أنظمة الحكم، وغياب الرؤية الواضحة للقوى الليبرالية التي عجزت عن الصمود أمام حجة القوى والحركات الإسلامية . وإلى جانب ذلك نلاحظ ضعف دور القوى المتوسطة، التي قد تشكل في الحقيقة قوة الدفع الذاتية انطلاقاً من أن القوى الأخرى الحاكمة، أو التقليدية المالكة لأدوات الإنتاج، والقوى الدينية الجديدة غير مؤهلة للدفع بالمجتمع نحو عملية إصلاح حقيقية ذاتية .

ولعل هذا من أهم العوامل التي تفسر لنا استمرار حالة الركود السياسي، فمن دون دور حقيقي ومؤثر لهذه الطبقة ستبقى عملية الإصلاح تراوح مكانها، بل قد تأخذها القوى الأخرى إلى مسارات بعيدة عن الإصلاح .

وإذا تحدثنا عن دور القوى الحاكمة سنجد أنها تحارب كل مظاهر التغيير والإصلاح الحقيقية، وهدفها هو المحافظة على استمرارية حكمها تحت ذرائع كثيرة، تارة التخوف من وصول الحركات الإسلامية، وتارة أخرى أن دوافع التنمية تقتضي دوراً أكبر للدولة، وتارة ثالثة للحيلولة دون الوقوع تحت سيطرة الفوضى السياسة والأمنية . أما دور القوى الإسلامية التي ترفع شعار الإصلاح والتغيير فهذا مجرد شعار شكلي وليس جوهرياً، وليست له علاقة بإصلاح النظام السياسي ووضعه على مسار الإصلاح الديمقراطي، بل مجرد وسيلة للوصول إلى الحكم والسلطة، ثم تطويع السلطة لأهدافها السياسية بإقامة أنظمة حكم إسلامية، ومحاربة كل أنظمة الحكم المدنية التي تعتبرها خارجة على الشرعية، بل إنها قد تذهب بعيداً وتصور فوزها في الانتخابات على أنه مجرد تنفيذ لمشيئة إلهية، وأن الأفراد مجرد مسيرين في الإدلاء بأصواتهم لهذه الحركات التي تتوقف عندها أي عملية للإصلاح . ولا شك في أن الحركات السياسية الإسلامية قد استفادت من فشل أنظمة الحكم القائمة في تلبية احتياجات جماهيرها، واستفادت أيضاً من ضعف أدائها في مجال الخدمات، كما استفادت كثيراً من عمليات الفساد السياسي والمالي التي قد تصاحب هذه الأنظمة، ولذلك نجحت أولاً في ملء الفراغ الخدماتي للدولة، ونجحت أيضاً في أن تصور نفسها على أنها تمثل الشفافية والمصداقية .

وفي الوقت الذي نجحت فيه هذه الحركات في ملء هذا الفراغ فشلت القوى العلمانية والقومية والوطنية والليبرالية التي تراجعت أمام قوة وتنامي دور القوى الإسلامية . وإلى جانب ذلك وجدت القوى المجتمعية التقليدية فرصة كبيرة للحفاظ على بقائها واستمرارها وبدرجة أكبر من ذي قبل . فمن ناحية القوى الحاكمة ساهمت في البقاء على دور العائلة والعشيرة والقبيلة في مواجهة قوى التغيير، وأيضاً القوى الإسلامية حافظت على دور هذه القوى التقليدية كقوى مساعدة لها في الوصول إلى السلطة .

إن السبب الرئيسي في حالة الركود السياسي يكمن في غياب البنى السياسية والمجتمعية الذاتية القادرة على إحداث قوة الدفع الذاتية للإصلاح . ومما ساهم في زيادة دور القوى التقليدية، وخصوصاً القوى الإسلامية هو التدخل الخارجي والربط بين أنظمة الحكم القائمة والولايات المتحدة أو ما تسمى الامبريالية الجديدة، وهو ما أكسبها قوة جماهيرية كبيرة . وفي هذا الإطار ما كان يمكن تصور ظهور منظومة من القيم الإصلاحية والديمقراطية، بل نلاحظ حالة من الانسلاخ في هذه المنظومة، وحالة من التفكك، والتداخل بين القيم السياسية الحديثة والقيم التقليدية، وفي إطارها تأرجح المواطن بين حالة من التفسخ السياسي التي حولته إلى مواطن متعدد وغير متجانس .

ولا شك في أن هذا التفسخ والتفكك في البنى السياسية والاجتماعية، وفي منظومة القيم هما اللذان يفسران لنا استمرار حالة الركود السياسية، واحتمال بقائها إلى أمد غير منظور .