فاروق حجي مصطفى

الأزمة الوطنيّة السوريّة تتفاقم، وبوتيرة متصاعدة، ومخيفة وخصوصاً بعد أن سمع السوريون نبأ إصرار laquo;البعثraquo; على قيادة الدولة والمجتمع في مرحلة مقبلة، ضاربة بكل صيحات التغييريين عرض الحائط، وبعد أن نشرت مسوّدة الانتخابات العامة (على المواقع التشاركية السوريّة) والتي تشي بشيء من الاستهتار بحلم السوريين في وصول ممثِّليهم إلى قبّة البرلمان. فمن يتصفّح هذه المسوّدة لا يلمس أي تغيير في بنيتها وبنية أصحابها وكأن هذا الحراك لم يحرّك أذهان من أضاع الوقت لكتابتها، الأمر الذي يخيّب الآمال ويزيد من تدهور أحوال البلاد والعباد.

هذه المسوّدة (الانتخابات العامة) مهما تعدّلت وقدمت إليها تعديلات من الرؤى والأفكار ستبقى عصيّة على فتح آفاق الشراكة السياسيّة، هذا عدا أنها تغلق الأبواب أمام التداول السلميّ للسلطة. ويبدو أن فهم بعض الأوساط في السلطة لمفهوم الشراكة السياسيّة والتداول السلمي للسلطة مختلف عن فهم المعارضة له، الأمر الذي تدعونا السلطة إلى البقاء في الدوامّة مطليّة بالدم لا الخروج منها.

وفضلاً عن ذلك، وبعيداً عن أن صفحة الاعتقالات السّياسيّة لم تتطور بعد، وأن العفو العامّ عن سجناء الرّأي أتى متأخراً للغاية، فان شكل الحوار الذي تطرحه السلطة لا يرتقي إلى الشكل المطلوب، حيث تطلعات النخبة المعارضة الديمقراطيّة ورؤيتها للحوار تختلف بمقاس كبير عما تطرحه السلطة، وشتان بين ما تطرحه المعارضة وما تتجاوب معه السلطة حيث يفصل بينهما بون شاسع، إذ تفهم المعارضة أن طلب السلطة للحوار مرده تأمين شروط بقائها ليس إلا، في حين أن مراد المعارضة للحوار هو تمهيد الطريق لبناء عقدٍ سياسيٍّ جديد ينقذ الوطن من انزلاقات قد لا تحمد عقباها، ومن ثم الشُّروع في فتح آفاقٍ جديدةٍ أمام السّوريين جميعاً الذين لطالما نادوا بالتغيير. فالحوار بهذا الشكل له دلالة سياسيّة ومجتمعيّة وقادرة على التَّأثير في المزاج الشّبابيّ والشعبي.

في حين مشهد الحراك الشبابيّ (والشعبيّ) السوري وخياراته يتطوّر يوماً بعد يوم، وتلوح في الأفق أن هذه الاحتجاجات تأخذ مداها طولاً وعرضاً، وعلى المستويين الجغرافيّ والسُّكانيّ - مشاركة غالبيّة مكوّنات الشّعب السّوريّ - كل هذا بعد أن انحازت السّلطة إلى جانب الحلّ الأمنيّ على حساب الحلّ السّياسيّ الذي كان الوطن أحوج إليه. والسؤال الذي يطرح نفسه الآن بقوة: ألم تكن المعارضة محقة حينما كانت تطالب بالإصلاح السياسيّ منذ أن تولى الرئيس بشار الأسد زمام السلطة؟ حيث، ومنذ laquo;ربيع دمشقraquo; في بدايات هذا القرن صار معروفاً أنّ الإصلاح السياسيّ أكثر أهميّةً من الإصلاح الاقتصاديّ، على رغم أنّ للأخير أهميته ودوره، إذ يهيّئ مكوّنات الوعي المجتمعي ويساهم في بلورة طبقاتٍ اجتماعيّة جديدة، لكنّ الإصلاح السياسي هو ما يحقّق للفرد وللمجتمع حرّيته وكرامته.

واليوم تؤكد الوقائع على الأرض أن الحل الأمني غير قادر على إعادة بناء سورية سياسيّاً واجتماعيّاً وثقافيّاً. وبدلاً أن تستجيب السلطة لمطالب المعارضة وحركة الشارع أصرّت على الحلّ الأمنيّ تاركة مطلب الحوار إلى مرحلة ما بعد laquo;عقل المستريحraquo;، وأقحم الجيش في الأزمة الوطنيّة في وقت أن الجيش في الأعراف السائدة هو مؤسسة يجب أن تكون طرفاً محايداً في أي نزاع سياسيّ داخليّ، ويجب أن ينحصر دورها في الدفاع عن الوطن من كل التهديدات الخارجيّة لا أن يُستغل من طرف (السلطة) ضد طرف آخر (الشعب). في العرف السائد أن الجيوش تبنى بناءً على حاجة الدولة لها، لا أن يكون مطيّة يحقق من خلالها طرف السلطة هيبته وتسلطه على حساب تطلعات الناس!

ونعطي الحق لأنفسنا فنقول إن المشهد السياسيّ السوريّ أمام استحقاقات جمّة:1 - إنقاذ البلاد من حمام الدم، وترك المحتجّين ليعبّروا عن آرائهم ومطالبهم بالحريّة. 2 - من مسئوليّة السلطة أن تبشّر الناس بأن ثمة واقعاً سياسيّاً جديداً يتبلور، والقبول بالنجاحات التي حققها الحراك والتي تشكل اليوم ركائز مرحلةٍ يمكن التّأسيس عليها. ولعل سوريّة كانت بحاجةٍ إلى مثل هذا الحراك، وذلك لأجل تغيير الذهنيّة التسلطية التي من خلالها تم إبعاد الشرائح الواسعة من الفعل السيّاسي السوريّ.

في الحقيقة أنّ فحوى ما يجري في الشارع السوريّ هو سعي لتغييرٍ جذريّ للنّمط الفكريّ والمعرفيّ للحالة السّياسيّة والثّقافيّة السّوريّة حتى تتيقّن شريحة الشباب من أنّ ما يجري يلامس فعلاً آفاقها وطموحاتها. بمعنى أنّ حركة الشّباب لن يخرسها الآن رفع حالة الطّوارئ - التي ما إن رفعتها السلطة من هنا حتى بدأت تمارسها بمفاعيلها وآليّاتها المعتادة هناك، ولكن من دون أن تصدر أي بلاغ بإعلانها من جديد. ونحن نعلم كم أن حالة الطوارئ هذه تسبّبت بخلط الأدوار وتشابك الوظائف في المؤسّسات الأمنيّة. ولن يكفيها من جهةٍ أخرى ادّعاء أو وعود بأن الإصلاحات التي أعلنتها السلطة، تؤدي إلى بناء نظام يعتمد على التداول السلمي والتعدديّة الحزبيّة. لقد بدا أنّ مطالب الشّباب لن توقفها حدودٌ إلا بأن يحيا حرّاً، لا يكبّله قانونٌ استثنائيّ، وبالتّالي يقف حجر عثرةٍ أمام تحقيق رغباته وطموحاته من جديد.

بقي القول إن النخبة السياسيّة في السّلطة أمام استحقاقاتٍ ملحة، وهي مدعوة لإعارة الاهتمام إلى رسائل الشارع، مفادها أن الشارع يرفض لغة السوط والرصاص، ويصرّ على إجراء التغييرات بدلاً من اتخاذ إجراءاتٍ إسعافيّة لاحتواء وتهدئة الأجواء في المحافظات. عند ذلك يتم الحديث عن الحوار، وتهيئة ظروفٍ مناسبة له بين الأطراف السياسيّة من المعارضة والسّلطة وصولاً إلى الشّراكة السّياسيّة، بعيدة عن هيمنّة حزب على الآخر