لماذا الثورة التي تشهدها سوريا تعتبر ام الثورات العربية؟ الجواب بكل بساطة لانّ التدهور في العالم العربي، في مشرقه تحديدا وصولا الى مصر ومنها الى الجزائر وليبيا، بدأ بسوريا. الانقلابات العسكرية في مرحلة ما بعد الاستقلال كانت في سوريا اوّلا. كان انقلاب حسني الزعيم في الثلاثين من آذار- مارس 1949 فاتحة مرحلة جديدة في العالم العربي ادت الى القضاء على اي امل في اي تطور للمجتمعات العربية طوال ستة عقود. اعدام حسني الزعيم بالطريقة التي اعدم بها، بعد اقلّ من ستة اشهر من نجاح انقلابه فتح الشهية على ممارسة التصفيات الجسدية في المنطقة.
جاءت بعد ذلك سلسلة من الانقلابات اطاحت بقايا الديموقراطية في العالم العربي. كانت هذه البقايا تتمثل بحياة حزبية نشطة الى حدّ ما كان يمكن ان تساعد في قيام برلمانات فاعلة. تحولت البرلمانات الى مجالس تابعة للزمر العسكرية الحاكمة. كانت البرلمانات مجرد اداة تبصم على القوانين التي يقرها العسكر. سقطت مصر بعد سوريا في العام 1952. ثم سقط العراق الذي لم يرّ يوما ابيض منذ انقلاب تموز- يوليو 1958 الذي اسس لحمامات دم ما زالت مستمرة. وحده لبنان استطاع ان يصمد بفضل صيغته المتميزة بحسناتها وسيئاتها والتي مكنته من تجاوز مرحلة الانقلابات العسكرية ولكن بعدما لحقت به اضرار كبيرة في السبعينات والثمانينات من القرن الماضي. ولولا عبقرية رجل استثنائي اسمه الملك حسين، رحمه الله، لكان الاردن في خبر كان بعد كل الغدر الذي تعرض له من الانظمة المزايدة، خصوصا في مصر وسوريا.
ما يحصل في سوريا اهم بكثير مما حصل في تونس او مصر او ليبيا او اليمن. ما يحصل يؤسس لبزوغ فجر عربي جديد لا مكان فيه لانظمة تعتمد على الشعارات من اجل تبرير قتل الشعوب وجعلها تعيش حالا من البؤس. الاهمّ من ذلك كله، ان ما تشهده سوريا هذه الايام دليل على ان الشعب فيها لا يزال متمسكا بكرامته وحريته وانه يسعى الى ان يعيش في بلد طبيعي لا اكثر ولا اقلّ بعيدا عن كل نوع من انواع الاوهام على راسها الوهم الدور الاقليمي.
هل كثير على سوريا ان تعود بلدا طبيعيا قادرا على استغلال ما يمتلكه من ثروات طبيعية من جهة واقامة علاقات صحية مع جيرانه من جهة اخرى؟ الجواب ان ذلك ممكن. هدف الثورة السورية تاكيد ان ما بني على باطل لا يمكن ان يستمرّ الى ما لا نهاية وان في استطاعة سوريا العيش بامان مع جيرانها العرب والاتراك، كما ستكون قادرة على العمل من اجل استعادة اراضيها المحتلة منذ العام 1967 من اسرائيل. ستعمل من اجل ذلك بعيدا عن المزايدات والشعارات الفارغة من نوع quot;المقاومةquot; وquot;الممانعةquot; التي لا تعني اكثر من استخدام لبنان quot;ساحةquot; لابتزاز العرب وغير العرب والمجتمع الدولي... والمتاجرة بالفلسطينيين وقضيتهم.
لعلّ اهم ما كشفته الثورة السورية ان الشعب السوري متعلق بثقافة الحياة وان همّه محصور بالتخلص من النظام الحالي الذي سدّ في وجهه ابواب المستقبل. الاكيد ان الرئيس بشّار الاسد ليس مسؤولا عن الازمة التي يعاني منها النظام نظرا الى انه اسير ذهنية معينة تحكّمت بكل الذين حكموا سوريا منذ وصول البعث الى السلطة في الثامن من آذار- مارس 1963. الرئيس السوري الحالي لم يستطع الخروج على اساليب الحكم التي تقوم على الغاء الآخر. وهذا يفسّر الى حد كبير تصرفاته في السنوات العشر الاخيرة. لم يدرك ان هناك اساليب مختلفة كانت سائدة في سوريا نفسها ايام كانت هناك حياة حزبية حتى لو لم يستمرّ ذلك طويلا في منتصف الخمسينات من القرن الماضي.
هل تستطيع سوريا ان تكون دولة طبيعية تلبي اول ما تلبي طموحات السوريين، او لنقل انها تسعى الى ذلك؟ الاكيد ان سوريا ستعود بعد فترة دولة طبيعية تعرف حجمها وتعرف ما يطمح اليه شعبها. وهذا سيكون له تاثير ايجابي على المنطقة كلها. ستكون دولة عربية تعرف ان ليس في الامكان رعاية ميليشيا مذهبية موالية لايران في الاراضي اللبنانية والشكوى في الوقت نفسه من وجود quot;متطرفينquot; داخل الاراضي السورية يعتدون على قوى الامن؟ هل quot;الجزر الامنيةquot; مسموح بها في لبنان بتشجيع سوري وباسلحة تدخل من سوريا ما دام الهدف تدمير مؤسسات الدولة اللبنانية، فيما ظهور اي سلاح خارج اطار الدولة في سوريا، هذا اذا كان مثل هذا الظهور صحيحا، quot;مؤامرة على امنهاquot;؟
آن اوان تسمية الاشياء باسمائها. ان تكون سوريا دولة طبيعية يبدأ بالتعاطي المختلف مع لبنان بعيدا عن اي نوع من العنجهية والاوهام والامراض المزمنة من نوع الاعتقاد بان لبنان بلد هش. متى يقبل النظام السوري بترسيم حدوده مع لبنان ووقف ارسال الاسلحة والكف عن التصرفات المسيئة الى كل لبناني يتمتع بحد ادنى من الكرامة، يمكن عندئذ الحديث عن نقلة نوعية في تصرفات هذا النظام. المؤسف انه كلما مرّ يوم يتبين ان النظام لا يزال غارقا في اوهامه، بل هو مصّر على الغرق في هذه الاوهام. انه يشجع على اثارة الغرائز المذهبية في لبنان غير مدرك ان ذلك سيمتد الى داخل سوريا.
باختصار شديد، يلجأ النظام السوري الى الاعيب من الماضي. الاعيب عفى عنها الزمن. الشعب السوري يعرف ذلك، بل يعرفه جيّدا. هذا ما يرفض النظام الاعتراف به. انه يرفض بكل بساطة الاعتراف بانه لم يستطع مواكبة الوعي الشعبي للواقع القائم. يعتقد النظام ان في استطاعته متابعة عملية الهروب الى امام الى ما لا نهاية. هذه لعبة انتهت. الشعب يريد ان تكون سوريا دولة طبيعية على علاقة طيبة مع كل جيرانها، باستثناء اسرائيل طبعا. هل في استطاعة النظام التصالح مع شعبه تمهيدا لاقامة علاقة طبيعية مع جيرانه؟ يختصر هذا السؤال ازمة النظام العاجز عن التعاطي مع الشعب السوري اوّلا والمصر على ان يكون شرطي المنطقة ثانيا واخيرا. انها ازمة بنيوية لا يمكن ان تنتهي الا بالانتهاء من نظام يظنّ انّ الانتصار على لبنان بديل من الانتصار على اسرائيل... وانّ الثورة الشعبية التي تتسع اسبوعا بعد اسبوع ليست اكثر من مؤامرة خارجية يشارك فيها المجتمع الدولي كلّه!