ليس هناك عربي يرفض تحرير هضبة الجولان السورية التي احتلتها اسرائيل قبل اربعة واربعين عاما او ان يقف عائقا في وجه تحقيق هذا الحلم. ولكن يبقى السؤال كيف ذلك؟ هل هناك توازن للقوى يسمح بالتحرير، ام ان المطلوب في هذه الايام بالذات استخدام الشعب الفلسطيني وقودا في معارك خاسرة سلفا؟ لا هدف لهذه المعارك، التي لا تخدم القضية الفلسطينية في شيء، سوى الدخول في لعبة المزايدات بغية ايجاد تغطية ومخارج للازمة العميقة التي يعاني منها النظام السوري، وهي ازمة متعددة الجانب والبعد في آن.
بقيت جبهة الجولان منسية حتى العام 1973 عندما شنت سوريا ومصر حرب اكتوبر او تشرين بهدف استعادة الاراضي المحتلة في العام 1967، بما في ذلك جبهة الجولان. لم تحرر سوريا الجولان ولم تحرر مصر سيناء. اخذت مصر علما بان الحرب، بما ادت اليه من نتائج، لا يمكن ان تستمر الى ما لا نهاية وان لا بديل في نهاية الامر من المفاوضات. سعى انور السادات عمليا الى انقاذ نظامه عن طريق الذهاب الى القدس والقاء خطاب في الكنيست الاسرائيلية. انتهت رحلة القدس بتوقيع معاهدة السلام مع اسرائيل في آذار- مارس من العام 1979 وذلك بعد توقيع اتفاقي كامب ديفيد في ايلول- سبتمبر من العام 1978. نتيجة المعاهدة، استعادت مصر سيناء المحتلة وثرواتها الضخمة المتمثلة في حقول النفط والغاز اضافة الى شرم الشيخ الذي اصبح احدى ركائز الاقتصاد المصري بعد تحويله منتجعا يقصده سياح من مختلف انحاء العالم...
في حسابات الربح والخسائر، انقذ انور السادات نظامه، موقتا. اغتيل السادات في تشرين الاول ndash; اكتوبر من العام 1981 على يد متطرفين اسلاميين. لكن المعاهدة المصرية- الاسرائيلية التي غيّرت المعطيات الاقليمية جذريا بقيت صامدة وذلك بغض النظر عما اذا كان ما اقدم عليه الرئيس الراحل عملا صائبا ام لا. كان همه انقاذ نظامه في غياب القدرة على شن حرب جديدة، فهرب الى السلام المنفرد مع اسرائيل غير آبه بمواقف العرب الآخرين الذين اكتشفوا في العام 1987 ان لا بديل من العودة الى مصر.
في المقابل، استغل الرئيس الراحل حافظ الاسد حرب تشرين كي يخلق وزنا اقليميا لسوريا. اغلق جبهة الجولان في العام 1974 وانصرف الى التركيز على لبنان عن طريق ارسال اكبر كمية من الاسلحة الى مختلف الفرقاء في البلد بهدف اغراق الفلسطينيين في الرمال المتحركة اللبنانية وجعل القوات السورية حاجة لبنانية. استطاع الاسد الاب بفضل هنري كيسينجر وضوء اخضر اسرائيلي ادخال القوات السورية الى لبنان بغطاء شرعي عربي ودولي في العامين 1976 و1977. لعب حافظ الاسد على كل التناقضات العربية والاقليمية والدولية واستفاد خصوصا من الحاجة اليه لاقامة توازن مع نظام عائلي- بعثي آخر بقيادة الراحل صدّام حسين في العراق. كانت لدى حافظ الاسد اوراق عدة يلعبها. من اهم هذه الاوراق الهدوء السائد على جبهة الجولان اضافة الى ضبط الحدود اللبنانية- الاسرائيلية بما يسمح لاسرائيل بمعرفة ما يمكن ان تتوقعه على اي عمل عسكري يمكن ان تقدم عليه، بما في ذلك اجتياحها لبنان ووصولها الى بيروت صيف العام 1982.
مع انتهاء الحرب الباردة وظهور مؤشرات جدية الى بدء انهيار الاتحاد السوفياتي، لم يخطئ حافظ الاسد في حساباته. جدد اوراق اعتماده لدى الولايات المتحدة بانضمامه الى المشاركين في حرب تحرير الكويت. اكسبه ذلك تمديد وجوده العسكري في لبنان وسمح له بالتخلص من تلك الدمية التي اسمها ميشال عون التي كانت تحتل قصر بعبدا. كان التخلص من عون سهلا نظرا الى انه لا يصلح ان يكون غير اداة، اضافة الى انه كان من بين الرهانات الغبية الكثيرة التي لجأ اليها صدّام حسين الجاهل في السياسة والتوازنات الاقليمية والدولية. كانت اهمية حافظ الاسد تكمن في المحافظة على توازنات معينة سمحت له بالبقاء في لبنان بشكل وصيّ عليه حتى وفاته في العام 2000...
لم يضطر الرئيس الراحل في اي لحظة الى التلويح باعادة فتح جبهة الجولان. كان يفاوض الاسرائيليين من اجل التفاوض من جهة ومن اجل المحافظة على علاقة جيّدة مع واشنطن. كان في استطاعته البحث باستمرار عن دور اقليمي لسوريا انطلاقا من ان جبهة الجولان مغلقة من جهة وان بقاء جنوب لبنان جبهة مفتوحة وفق شروط معينة يستجيب في الوقت ذاته لما تريده اسرائيل ولما تريده سوريا وذلك بغض النظر عن كل ما يرفع من شعارات طنانة عن مقاومة وتحرير وما شابه ذلك. فاسرائيل انسحبت من جنوب لبنان في العام 2000 تنفيذا للقرار 425 لسببين. السبب الاوّل انها لا تريد البقاء فيه الى ما لا نهاية متحملة اي نوع من الخسائر البشرية، حتى لو كانت محدودة، والآخر انها تسعى الى التركيز على الموضوع الفلسطيني. كان همها الاول في تلك المرحلة، عندما كان ايهود باراك رئيسا للوزراء، يتمثل في جعل ياسر عرفات، رحمه الله، يتشدد في مواقفه وشروطه في مفاوضات السلام. وقد زاد موقف الزعيم الفلسطيني الراحل تشددا بعدما شاهد الاسرائيليين ينسحبون في السنة 2000 من جنوب لبنان من دون شروط تنفيذا لقرار صادر عن مجلس الامن في العام 1978.
لعلّ من اغرب الامور التي نشهدها حاليا غياب الاهتمام العربي بما يدور على جبهة الجولان على الرغم من سقوط هذا العدد الكبير من الضحايا بين الفلسطينيين من المقيمين في المخيمات السورية يوم الخامس من حزيران- يونيو الجاري. لا يزال الخبر الابرز في الفضائيات والصحف ووسائل الاعلام العربية التي تحترم نفسها، ولو قليلا، الوضع الداخلي في سوريا واحداث اليمن. على ماذا يدل ذلك؟ انه يدل على امرين الاول ان ازمة النظام السوري تزداد تعقيدا واتساعا والآخر ان الفلسطينيين انفسهم يزدادون قناعة بانهم يُستخدمون وقودا في معركة لا علاقة لها بقضيتهم لا من قريب ولا من من بعيد. انهم يقتلون من دون سبب فيما العالم يصفق لارهاب الدولة الذي تمارسه اسرائيل.
هل افلس النظام السوري الى درجة لم يعد امامه سوى اعتماد الهروب الى الجولان؟ هل هذا موسم الهجرة الى الجولان الذي كان في اساس الوهم الكبير الذي اسمه الدور الاقليمي لسوريا؟ كان هذا الدور السوري مطلوبا، بل كان هناك من يشجع عليه في مراحل معينة لاسباب عربية- عربية في معظم الاحيان. في السنة 2011، هناك عالم تغيّر وهناك منطقة تتغيّر كل يوم. لا يمكن بناء اي دور كان الا على مصالحة حقيقية مع المواطن العادي. يمكن، بالطبع، بناء ادوار في ظروف معينة استنادا الى اوهام. لكن ذلك لا يمكن ان يستمر الى ما لا نهاية!