في مثل هذه الايام من العام 1999 غاب الملك حسين. بعد اثني عشر عاما على غياب ذلك الملك الحقيقي، نكتشف اليوم كم ان العرب في حاجة الى الحسين وحكمته وبعد نظره اكان ذلك على الصعيد الداخلي او الاقليمي. اليوم، مع دخول الشرق الاوسط مخاضا صعبا واليما، سيؤدي الى تغيير في الانظمة والخرائط، يبدو الملك حسين حاضرا اكثر من اي وقت اردنيا وعربيا. غاب الصوت الذي يستطيع قول ما يجب ان يقال ويحاول وضع حدّ لكل انواع التطرف والبحث عن مخارج. باختصار شديد، لم يعد هناك زعيم عربي قادر على ان ان يقول للاسرائيلي ان كفى تعني كفى وللاميركي ان السياسة المتذبذبة لواشنطن لا يمكن ان تقود سوى الى مزيد من عدم الاستقرار على الصعيد الاقليمي. لم يعد هناك ايضا زعيم عربي يتجرّأ على القول لبعض العرب وغير العرب الموجودين في المنطقة ان الابتزاز ليس سياسة وان استخدام الارهاب او ممارسي الارهاب لتحقيق مآرب سياسية، على غرار ما حصل في لبنان اخيرا، تعبير عن افلاس شديد لا اكثر ولا اقلّ.
يتبين كل يوم ان الملك حسين كان زعيما فريدا من نوعه وانه لو استمع العرب اليه لكانوا في وضع افضل بكثير مما هم عليه الآن. منذ البداية، سقط العرب في لعبة المزايدات. سقطوا في لعبة العجز عن التفريق بين الهزيمة والانتصار التي في اساسها نتائج حرب السويس في العام 1956. لم يفهم العرب ان حرب السويس كانت هزيمة مصرية وان الانتصار كان انتصارا اميركيا على فرنسا وبريطانيا واسرائيل وليس انتصارا عربيا على ما سمّي الاستعمار. كلّ ما في الامر ان اميركا كانت تريد توجيه رسالة الى اطراف العدوان الثلاثي فحواها ان ليس مسموحا لاي حليف لها، مهما كان قريبا، الدخول في حرب من دون اذن منها... فاجبرت بريطانيا وفرنسا واسرائيل على الانسحاب من الاراضي المصرية. لم يفهم العرب شيئا مما حصل باستثناء الملك حسين الذي ادرك حجم المأساة العربية فاضطر مجبرا الى اعادة النظر في المسيرة الديموقراطية التي كان باشرها الاردن باكرا.
عرف الحسين كيف يحافظ على الاردن في مواجهة العواصف التي هبت على الشرق الاوسط واطاحت انظمة عدة وانهت الحياة الحزبية والنيابية وكل ما هو حضاري او على علاقة بالحضارة والتمدن في العراق وسوريا، بعد مصر، وفي دول اخرى في المنطقة. كادت تلك العواصف التي قادت الى هزيمة 1967 ان تقضي على لبنان لولا تركيبته المتينة وصيغته المتميزة التي مكنته، بحسناتها وسيئاتها، من مواجهة الهجمات المستمرة التي تعرّض لها منذ العام 1969 تاريخ توقيع اتفاق القاهرة المشؤوم، الذي شرّع السلاح غير الشرعي على ارضه، وحتى منذ ما قبل ذلك.
عرف الملك حسين منذ البداية ان عليه قطع الطريق على مشروع الوطن البديل. بعد خسارته القدس والضفة الغربية بسبب رعونة جمال عبد الناصر، الذي لا يزال للاسف الشديد بين العرب من يمجّد هزائمه، انقذ القضية الفلسطينية في العام 1970 . حصل ذلك عندما قضى الجيش العربي، اي جيش المملكة الاردنية الهاشمية على مسلحي الفصائل الفلسطينية الذين اقاموا دولة داخل الدولة في الاردن وسعوا الى القضاء على مؤسسات المملكة. اظهر ياسر عرفات وقتذاك ضعفا شديدا وضحالة سياسية عندما عجز عن اتخاذ قرار حاسم برفض اقامة مربعات امنية للفلسطينيين في الاردن.
بعد احداث 1970، كانت هناك ثلاث محطات اساسية اظهرت مدى بعد نظر باني مؤسسات الدولة الاردنية الحديثة. كانت المحطة الاولى صيف العام 1988 عندما اتخذ الحسين قرار فك الارتباط مع الضفة الغربية. وضع اللبنة الاولى لقيام الدولة الفلسطينية المستقلة التي لا بد ان ترى النور يوما. تجاوز العاهل الاردني، الذي رسم حدود الدولة الفلسطينية، الاساءات التي استهدفت الاردن، بما في ذلك قرار القمة العربية التي انعقدت في الرباط في العام 1974 والقاضي باعتبار منظمة التحرير الفلسطينية الممثل الشرعي الوحيد للشعب الفلسطيني. اتخذت القمة ذلك القرار نتيجة ضغط مارسه وقتذاك الرئيس الجزائري هواري بومدين الذي منعه الافق السياسي الضيق الذي كان ينظر من خلاله الى الامور من التفكير بالنتائج القانونية لخطوة من هذا النوع، خصوصا ان الضفة الغربية كانت تحت السيادة الاردنية عندما احتلتها اسرائيل.
تجاوز الحسين كل ذلك، وترك الضفة الغربية للفلسطينيين، خصوصا بعد اندلاع الانتفاضة الاولى غير المسلحة في خريف العام 1987 وبداية 1988، علما ان حجتهم القانونية كانت اقوى لو تركوا الاردن يستعيد الضفة والقدس الشرقية بما يسمح باقامة دولة كونفيديرالية في اطار تسوية شاملة في المنطقة... قد تأتي او لا تأتي في يوم من الايام.
كانت المحطة الثانية اجراء انتخابات في الاردن بعد اضطرابات اجتماعية تسببت بها ازمة اقتصادية واجتماعية في العام 1989. استخلص الملك العبر من الاضطرابات. ادرك ان العالم يتغيّر. لم يردّ على الاضطرابات بالقمع ولم يستخف بما شهدته مدن اردنية، خصوصا معان. تخلى عن الحكومة التي كانت وقتذاك برئاسة السيد زيد سمير الرفاعي ووضع الاسس لسلسلة من الاصلاحات السياسية توجت باجراء انتخابات اقتصرت على الضفة الشرقية. ادت تلك الانتخابات الى استيعاب الاسلاميين وكل القوى التي كان يمكن ان تستفيد من اي نوع من الاضطرابات والتململ. وكان رجل تلك المرحلة الشريف زيد بن شاكر (اصبح اميرا في ما بعد).كان الامير زيد شخصية جامعة تتمتع باحترام واسع لدى معظم الاوساط الاردنية.
تفرد الحسين بين حكام المنطقة بالقدرة على رؤية العالم يتغيّر وبداية نهاية الحرب الباردة. استشف المستقبل. ليس صدفة ان الانتخابات الاردنية جرت يوم الثامن من تشرين الثاني- نوفمبر 1989 عشية سقوط جدار برلين...
في تلك المرحلة، مرحلة بداية انهيار الاتحاد السوفياتي، ذهب الحسين الى الاصلاحات السياسية والاقتصادية والاجتماعية. في المقابل، ذهب صدّام حسين الى مغامرة مجنونة تمثلت في احتلال الكويت غير مدرك لخطورة تلك الخطوة على مستقبل العراق والتوازن الاقليمي. اسس الملك حسين لدولة المؤسسات في الاردن، في حين اسس صدّام لانهيار العراق وللنظام الاقليمي والعربي. هذا الانهيار نشاهده كلّ يوم، بل ساعة بساعة، على شكل مسلسل متسارع الاحداث تنقله الينا الفضائيات بشكل مباشر.
كانت المحطة الثالثة توقيع معاهدة سلام مع اسرائيل في العام 1994. حفظت المعاهدة للاردن حقوقه في الارض والمياه وحالت دون تحوله الى ساحة للتجاذبات الاقليمية كما حال لبنان والاراضي الفلسطينية حاليا. قطع الملك حسين، مستغلا الفرصة التي قد لا تتكرر، الطريق على مشروع الوطن البديل الذي كان ولا يزال اليمين الاسرائيلي يعمل من اجل تحقيقه. هل من خدمة اكبر من هذه الخدمة تقدم الى الاردنيين والفلسطينيين وللعرب عموما؟
غادرنا الملك حسين بعدما بنى دولة مؤسسات واضحة الحدود وبعدما سعى الى تشجيع الفلسطينيين على اقامة دولتهم المستقلة التي ترفضها اسرائيل. لم يكن الحسين انسانا عاديا لسبب واحد على الاقلّ يمكن في انه كان متقدما على غيره من زعماء المنطقة عشرين عاما في اقلّ تقدير. والاهم من ذلك كله، انه كان يقود الشارع الاردني بدل ان ينقاد له. كان زعيما عربيا لم يدرك العرب يوما قيمته، بل ظلموه وظلموا الاردن وظلموا عائلته الهاشمية. قابلوا ما قدمه لهم من خدمات بالجحود ولا شيء غير الجحود!
كم نفتقد اليوم الملك حسين. بعد اثني عشر عاما على وفاته، تبدو الحاجة اليه اكثر من اي وقت. ثمة حاجة الى انصافه، بصفة كونه اهم زعيم عربي في التاريخ الحديث. يكفي انه بنى دولة حديثة من لا شيء ووقف في وجه اطماع اسرائيل وحاول دائما اعادة العرب الى رشدهم من دون ان تتلوث يده بالدم، حتى بدم الذين حاولوا قتله...