هل من عودة الى خلف في سوريا، اي الى النظام العائلي- البعثي؟ ايا تكن نتيجة الاضطرابات التي يشهدها هذا البلد العربي المهم منذ ما يزيد على شهرين، سيتغيّر شيء ما في سوريا، بقي الرئيس بشّار الاسد في السلطة ام اضطر الى التخلي عن الرئاسة، لا فارق. يتبين كل يوم ان النظام القائم لا يمتلك مشروعا سياسيا او اقتصاديا او حضاريا واضحا يقدمه للناس. ولذلك، من الخطأ الكلام عن اصلاحات وما شابه ذلك. كل ما في الامر ان النظام، الذي لا يمكن اصلاحه، يمرّ في ازمة عميقة عمرها سنوات مديدة كان لا بدّ من ان تتكشف يوما. وها انها تكشفت. مارس النظام لعبة التذاكي طويلا. هذه لعبة مفيدة، اذا وجد من يتقنها شرط توافر ظروف معينة. تستطيع هذه اللعبة ان تخدم اي نظام لفترة ما. ولكن في نهاية الامر، هناك استحقاقات لا يمكن الهرب منها. الاهم من ذلك كلّه، انه لا يمكن لدولة ذات مؤسسات متخلفة على كل الصعد واقتصاد هزيل تغطية عجزها عن طريق اتباع سياسة تقوم على بيع الأمن للآخرين. ستجد هذه الدولة ان هناك من هو على استعداد لشراء هذه السلعة مرة ومرتين وثلاث وربما مئة مرة... الى ان تكتشف ان توفير الامن للآخرين بضاعة كاسدة وان هذه التجارة ستعود في المدى الطويل بالخسارة على من يمارسها، بل سترتد عليه عاجلا ام آجلا. وهذا ما حصل بالفعل مع النظام السوري.
تكمن مشكلة النظام السوري في السنة 2011 في انه لم يعد يجد من يشتري منه بضاعته. نسي ان المنطقة كلها تغيّرت منذ الاجتياح الاميركي للعراق في العام 2003. سقط النظام السوري عمليا مع سقوط النظام العائلي- البعثي الذي اقامه صدّام حسين. كان عليه ان يغيّر نوع البضاعة التي يبيعها. لم يستطع ذلك. بقي اسير الشعارات التي رفعها والمفاهيم الخاطئة التي اعتمدها، على راسها الاعتقاد ان لبنان بلد quot;هشquot; وان في الامكان التحكم به انطلاقا من دمشق. الى الآن، لم يستوعب النظام السوري معنى خروجه عسكريا من لبنان في العام 2005 واضطراره الى الاعتماد على ميليشيا ايرانية اسمها quot;حزب اللهquot; لتأكيد انه لا يزال يسيطر على الوطن الصغير ذي الصيغة الفريدة من نوعها بحسناتها الكثيرة وسيئاتها التي قد تكون اكثر من حسناتها. لكنها في النهاية صيغة صلبة مكنت البلد من الصمود والتماسك طوال ما يزيد على اربعين عاما، منذ توقيع اتفاق القاهرة المشؤوم في العام 1969. لم يكن من هدف لذلك الاتفاق الذي ضغطت سوريا مع آخرين من اجل فرضه على لبنان سوى تفتيت الجمهورية اللبنانية والقضاء عليها عن طريق اغراق اراضيها بالسلاح غير الشرعي بدءا باقامة ما يسمّى جزيرة امنية اسمها quot;فتح لاندquot; في جنوب لبنان.
في السبعينات والثمانينات من القرن الماضي، وجد النظام السوري دورا مهما له يتمثل في ايجاد توازن بين البعثين السوري والعراقي. لقي دعما دوليا وعربيا، خصوصا انه كان مطلوبا وقتذاك ايجاد من يضع حدا لتهور صدّام حسين الذي تفوق عليه الرئيس الراحل حافظ الاسد في استيعاب المعادلات الاقليمية والدولية وموازينها الدقيقة. اكثر من ذلك، اكد الاسد الاب بالملموس بعدما اغلق جبهة الجولان منذ العام 1974 انه يحترم اي اتفاق يتوصل اليه مع اي طرف دولي او اقليمي عندما يتعلق الامر بسوريا. وعرف خصوصا تسويق وجوده العسكري في لبنان، بالتفاهم مع الادارة الاميركية، من منطلق قدرته على السيطرة على مسلحي منظمة التحرير الفلسطينية، حتى السنة 1982، ومنع quot;حزب اللهquot; الذي حل مكان منظمة التحرير الفلسطينية ابتداء من السنة 1983 من التمادي في خطف الاجانب وتدمير ما بقي من مؤسسات الدولة اللبنانية. هل صدفة ان خطف الاجانب توقف مع عودة الجيش السوري تدريجا الى بيروت في اواخر العام 1986 وبداية العام 1987بضوء اخضر اميركي؟
استطاع حافظ الاسد تجاوز مرحلة ما بعد انهيار الاتحاد السوفياتي مطلع التسعينات من القرن الماضي عن طريق الانضمام الى التحالف الدولي الذي شارك في تحرير الكويت. استفاد في الوقت ذاته من غباء شخص اسمه ميشال عون، لا يعرف شيئا من الف باء السياسة والعسكرية، ليسيطر على قصر بعبدا، اي قصر الرئاسة في لبنان. فرض الياس الهراوي رئيسا للجمهورية بعد التخلص من رينيه معوض، الرئيس الشهيد الذي رفض ان يكون مجرد اداة طيعة للنظام السوري. فرض في 1998 على اللبنانيين شخصا اسمه اميل لحود بعدما تحول بشّار الاسد ابتداء من مرحلة معينة الى شريك في صنع السياسة العليا لسوريا. لم يكن اميل لحّود سوى تافه آخر لم يدرك يوما ان السياسة شيء والحقد على مشروع الانماء والاعمار الذي كان يقف خلفه الرئيس الشهيد رفيق الحريري شيء آخر.
في السنة 2011، لم يستوعب بشّار الاسد انه كان عليه ان يتغيّر منذ السنة 2003 وان قواعد اللعبة الاقليمية صارت مختلفة كليا منذ سقوط النظام العائلي- البعثي الاخر في العراق. لم يستوعب ان الشعب السوري ليس بالغباء الذي يعتقده وانه دخل مرحلة لم تعد لديه بضاعة يبيعها لا للعرب ولا لغير العرب بدليل انه اضطر الى الانسحاب عسكريا من لبنان نتيجة اغتيال رفيق الحريري وانه لم يجد اخيرا من يشتري منه ورقة تشكيل اكثرية نيابة جديدة في لبنان اسقطت حكومة سعد الحريري معتمدة على السلاح الايراني الذي في يد quot;حزب اللهquot; وهو سلاح مذهبي اوّلا واخيرا.
في السنة 2011، لا يستطيع النظام السوري تجاوز ازمته مع السوريين قبل اي شيء آخر. انها العودة الى المربع الاوّل. هناك شعب يؤمن بثقافة الحياة وليس بثقافة المقاومة او الممانعة التي ليست سوى تعبير آخر عن ثقافة الموت. اثبت السوريون، على الرغم من كل الظلم والقهر اللذين تعرضوا لهما، انهم متعلقون بسوريا وبالحرية والكرامة وانهم يفرقون بين النظام من جهة ووطنهم الغالي من جهة اخرى وانهم لا يصدقون اولئك المتملقين اللبنانيين الذين يخلطون الآن بين سوريا وبين النظام.
كل ما فعله هؤلاء اللبنانيون، الذين يكسبون لقمة عيشهم من لعب دور الاداة، حتى لا نقول من عرق ركابهم، هو خداع النظام السوري بان هناك اكثرية في لبنان تقف معه. انها كذبة كبيرة لا تشبهها سوى كذبة ان هناك في سوريا، باستثناء قلة قليلة من المرتزقة والمنتفعين، اكثرية ساحقة تقف مع النظام وتؤيده...هل يمكن ان يعبد المواطن السوري جلاده ومن لا همّ له سوى استعباده وقهره وتفقيره وتجهيله... او استغبائه، في احسن الاحوال؟