من المهم جدا بالنسبة الى استقرار المنطقة خروج سوريا من محنتها باقلّ مقدار ممكن من الخسائر. وهذا يعني في طبيعة الحال المحافظة على وحدة البلد في ظل نظام ديموقراطي يؤمن العدالة والمساواة بين المواطنين بعيدا عن وهم الدور الاقليمي الذي لا يوفّره سوى اقتصاد قوي ومجتمع متماسك. ما يمكن ان يحافظ على مستقبل سوريا ووحدتها هو العودة الى الديموقراطية والى نظام برلماني يضم احزابا ذات برامج وطنية بعيدا عن النظام القائم حاليا والذي يكرر نفسه باستمرار عن طريق اللجوء الى اجراءات قمعية. فسوريا الموحدة ضمان لتفادي تفتيت المنطقة العربية اكثر مما هي مفتتة...
كان يمكن لهذه الاجراءات القمعية التي تعتبر جزءا لا يتجزّأ من النظام ان تسمح بضبط الوضع الى حين. كان ذلك ممكنا في الستينات والسبعينات والثمانينات والتسعينات من القرن الماضي. وكان يمكن حتى الاستعانة بالقمع طوال العقد الاول من القرن الواحد والعشرين. الان، لم يعد القمع ينفع لسبب في غاية البساطة يتمثّل في ان النظام العائلي- البعثي القائم في البلد منذ العام 1970 بات يواجه مشاكل مستعصية يرفض الاعتراف بها وبمدى عمقها. يرفض النظام السوري الاعتراف بانه غير قابل للاصلاح وان صلاحيته انتهت، تماما كما حصل مع الانظمة التي قامت في دول اوروبا الشرقية بعد الحرب العالمية الثانية. تغيّرت الانظمة في تلك الدول وراحت تنهار الواحد بعد الآخر بمجرد انهيار جدار برلين في التاسع من تشرين الثاني- نوفمبر 1989. تغيّرت خريطة اوروبا كلها مع انهيار الاتحاد السوفياتي. هناك دول استعادت الديموقراطية واخرى تغيّر شكلها على نحو جذري. المانيا الشرقية عادت الى المانيا. لم يكن طبيعيا ان تنتصر برلين الشرقية على برلين الغربية. وهذا ما لم يفهمه النظام السوري يوما. يوغوسلافيا صارت دولا عدة، ولكن بعد مجازر، بعدما تبين ان ما يوحدها كان الزعيم التاريخي جوزف بروز تيتو والحرب الباردة. اما تشيكوسلوفاكيا، فقد انتهت دولتين. كان الطلاق بطريقة حبية الطريق الاقصر الى ازدهار تشيكيا وسلوفاكيا في آن...
قد يكون افضل دليل على مدى عمق الازمة التي يمر بها النظام السوري عدم قدرته على الحرب وعجزه عن التوصل الى سلام في الوقت ذاته. تحوّل الى نظام لا همّ له سوى ارسال السلاح والمسلحين الى لبنان لاثبات انه قادر على محاربة اسرائيل بالواسطة ولعب دور القادر على المتاجرة بالسلم الاهلي في الوطن الصغير في الوقت ذاته. من قال ان اسرائيل تعترض على ارسال اسلحة الى لبنان وتعارض تعزيز دور الاحزاب المذهبية على حساب مؤسسات الدولة اللبنانية؟
كل ما يمكن قوله ان الازمة التي يعاني منها النظام السوري عميقة الى درجة لا تنفع معها الاصلاحات. هذا النظام الى زوال. يفترض ان يكون التركيز على نظام جديد يعالج مجموعة من المشاكل تعاني منها سوريا. في طليعة المشاكل غياب المجتمع المدني ودولة القانون والمشكلة الطائفية والمذهبية والنمو السكاني وغياب اي خطة اقتصادية على علاقة من قريب او بعيد بالاقتصاد. افتقد النظام السوري القدرة على مواجهة الواقع، خصوصا صعود موجة التطرف الديني بكل ما تمثله من خطورة. عجز بكل بساطة عن استيعاب ان لا قدرة على الاصلاح من دون برامج تعليمية متقدمة وان شعاري المقاومة والممانعة لا ينطليان على احد.
اكثر من ذلك، لم يستوعب النظام السوري ان النفوذ في لبنان لا يعني شيئا وان استخدام السلاح الذي في يد حزب مذهبي تابع لايران لا يمكن الا ان يرتد سلبا على هذا النظام الذي يبحث عن شرعيته من خلال القول انه فوق المذهبية والطائفية وانه تجاوز كل انواع الانقسامات التي يمكن ربطها بهما. لم يستوعب النظام السوري خصوصا لماذا خرج عسكريا من لبنان ولماذا عليه ان يغيّر كل تصرفاته تجاه هذا الجار بشكل جذري اذا كان لا يريد ان تنتقل اليه عدوى الامراض التي سعى الى نشرها في لبنان.
مرة اخرى، ليس في استطاعة النظام السوري الاقدام على اي نوع من الاصلاحات. لو كان قادرا لفعل ذلك منذ عشر سنوات على الاقل بعيد تولي الرئيس بشّار الاسد السلطة. لو كان قادرا على ذلك، لكان نظر الى الدور الاقليمي لسوريا من زاوية اخرى مختلفة تماما لا علاقة لها من اي نوع كان بالسلاح الذي يرسل الى لبنان ولا بتشجيع حزب مذهبي على الاستقواء على اللبنانيين الآخرين من السنّة والمسيحيين والدروز وعلى كل الشرفاء من ابناء الطائفة الشيعية الكريمة.
ما ينقذ سوريا ويقيها شرور التقسيم وكل انواع الحروب الداخلية هو الاعتراف بان الشرق الاوسط تغيّر وان لا مكان فيه لنظام ستاليني لا شبيه له في العالم سوى النظام القائم في كوريا الشمالية... او في ايران الى حدّ ما. لم يعد في هذا الشرق الاوسط الجديد مكان لانظمة تبحث عن شرعيتها عن طريق الشعارات التي لم يعد يصدقها اي سوري يمتلك حدا ادنى من المنطق. لا مكان لانظمة لا تفكر بخطورة النمو السكاني في غياب اي تقدم في المجال الاقتصادي او الزراعي او في حقل التعليم. فالنظام السوري غير قادر على حل ايّ مشكلة تواجه البلد اللهم الاّ اذا كان يعتقد ان زاحفين، ظهروا على المسرح السياسي في لبنان في عهد الوصاية، صاروا يعتبرون سياسيين او صارت لهم حيثية بمجرد انهم يشتمون سعد الدين رفيق الحريري او يشيدون بسلاح quot;حزب اللهquot; ويتحدثون عن quot;مقاومة لا همّ لها سوى تحويل لبنان الى محمية ايرانية...
في النهاية، ان شبح التقسيم يهدد المنطقة. من كان يصدق ان الجنوب السوداني سينفصل عن السودان؟ ماذا يضمن بقاء العراق دولة واحدة موحدة بعد الانسحاب الاميركي آخر السنة الحالية؟ ماذا عن مستقبل اليمن القابل لان يصير خمس دول وقد لعبت ايران دورا فعّالا في هذا الاتجاه عبر دعمها للحركة الحوثية في شمال الشمال اليمني؟
في النهاية، النظام السوري الحالي غير قابل للاصلاح. هذا يجر الى التساؤل: سوريا الى اين؟ الكثير يعتمد على القدرة على تحول البلد الى اعتماد نظام ديموقراطي يمتص المشاكل التي عمّقت من ازمة النظام والمجتمع والدولة. هل بقي شيء من التجربة الديموقراطية القصيرة في سوريا قبل quot;طوفان البعثquot; ( بالاذن من الراحل الكبير عمر اميرالاي) في العام 1963 والبؤس الذي غمر به هذا الطوفان المجتمع السوري؟