لم يتغيّر شيء في لبنان، بل تغيّر الكثير. لم يتغيّر شيء منذ اللحظة الاولى لاغتيال الرئيس رفيق الحريري ورفاقه في الرابع عشر من شباط- فبراير 2005 والجرائم التي تلت ذلك الزلزال. لا تزال المحاولات مستمرة لتغطية الجريمة الكبرى ولكن من دون جدوى. كل ما في الامر انه منذ نزل اللبنانيون الى الشارع، لم تعد هناك جريمة من دون عقاب.
كانت المحاولة الاولى لتغطية جريمة اغتيال رفيق الحريري توزيع ما يسمّى شريط quot;ابو عدسquot; والعبث بمسرح الجريمة ثم دعوة رئيس الجمهورية وقتذاك الى اعادة فتح الطريق امام فندق سان جورج quot;كي ينصرف المواطنون الى اشغالهمquot;. حدث ذلك في الجلسة الاولى لمجلس الوزراء، مباشرة بعد اغتيال الحريري ورفاقه...
لمّا وجد القتلة ان هناك ارادة دولية صلبة واصرارا على متابعة التحقيق والسير فيه الى النهاية، بوشر تنفيذ سلسلة من التفجيرات، خصوصا في المناطق المسيحية الطابع في البداية. كان الهدف اقناع اللبنانيين، عن طريق الارهاب، بان عليهم الرضوخ للمنطق القائل ان الفاعل مجهول وان عليهم اتهام اسرائيل بعد كل جريمة او ان يلوموا بعضهم بعضا على غرار ما حصل في العام 1977 لدى التخلص من كمال جنبلاط. وقتذاك، انصب غضب انصار الزعيم الدرزي، بتحريض من جهات معينة معروفة، على القرى المسيحية في الشوف، فقتل من قتل وشُرّد من شُرّد في حين كان القاتل الحقيقي يتفرّج على المآسي التي حلّت بقرى صغيرة مبديا استياءه الشديد من عدم قدرة اللبنانيين على العيش معا...
لمّا لم تؤد التفجيرات التي تلت اغتيال رفيق الحريري الى النتائج المرجوة، بدأ مسلسل الجرائم. كان مطلوبا منذ البداية وقف التحقيق وتسجيل الجريمة باسم مجهول... او الاكتفاء باتهام اسرائيل. كان مطلوبا عمليا ان تمرّ جريمة اغتيال رفيق الحريري ورفاقه، على راسهم باسل فليحان، كما مرَت الجرائم الاخرى بما في ذلك جريمة اغتيال كمال جنبلاط ثم الرئيسين بشير الجميل ورينيه معوض او جريمة اغتيال المفتي حسن خالد او الصحافيين الكبيرين سليم اللوزي ورياض طه وكثيرين آخرين.
تكمن مشكلة الذين اغتالوا رفيق الحريري في ان اللبنانيين لا يريدون التراجع هذه المرة. انهم يعرفون جيدا ان لا شيء يخرج بلدهم من محنته سوى تحقيق العدالة. لذلك استمروا في تقديم التضحيات. قدموا سمير قصير وجورج حاوي وجبران تويني ووليد عيدو وبيار امين الجميل وانطوان غانم واللواء فرنسوا الحاج والرائد وسام عيد والنقيب سامر حنا وكمّا من شهداء الجيش في معركة مخيم نهر البارد لتاكيد ان العدالة لا بدّ من ان تتحقق وان دماء الشهداء والشهداء الاحياء كمروان حماده والياس المرّ ومي شدياق لن تذهب هدرا.
يرفض اللبنانيون بكل بساطة المحاولات المستمرة لتغطية الجريمة. انهم يعرفون ان لحظة ظهور الحقيقة تقترب وان على الذين اغتالوا اللبنانيين الشرفاء الذين اخلصوا لوطنهم وللعروبة الحقيقة ورفضوا الشعارات المزيفة مواجهة القرار الاتهامي قريبا. ما يعرفه اللبنانيون ان شخصا مذعورا مثل النائب ميشال عون، الذي لا يستطيع سوى ان يكون اداة لدى الادوات، لن ينجح في تغطية الجرائم المرتبكة مهما بلغت به الوقاحة. هل من وقاحة اكثر من ان يحاضر ميشال عون بالعفاف مستعينا بكل ذلك الجهل الذي لا يتمتع به سوى اشباه الاميين من امثاله او من وزراء ونواب تابعين له في هذا الزمن الرديء...
لم تنفع التفجيرات ولم تنفع الاغتيالات ولم تنفع الاستعانة بميشال عون او باسرائيل لتدمير جزء من البلد عن طريق افتعال حرب صيف العام 2006. ولم تنفع quot;فتح الاسلامquot; التي جيء بها الى مخيم نهر البارد ولم تنجح عملية الاعتصام في وسط بيروت استكمالا للعدوان الاسرائيلي في وقف المحكمة الدولية. لم تنفع حتى غزوة بيروت والجبل في ايار- مايو 2008 في اخضاع اللبنانيين. هناك وضع خاص اسمه الزعيم الدرزي وليد جنبلاط الذي عليه المحافظة على طائفته المهددة. ربما كان خنوع جنبلاط الاستثاء شبه الوحيد. اما اهل السنّة فانهم يعرفون انهم بحر لا يمكن ترويضه وان ولاءهم الاول والاخير لمن يؤمن بالعدالة وبلبنان السيد الحر المستقل. اما المسيحيون، فقد لخص موقفهم الرئيس امين الجميّل في ذكرى استشهاد نجله بيار عندما اعلن مجددا، قبل بضعة ايام، ان لا صوت يعلو فوق صوت العدالة وان كل كلام آخر مضيعة للوقت. اما الشيعة، فانهم يعرفون قبل غيرهم ان لا مصلحة لهم سوى في ان يكونوا لبنانيين قبل اي شيء آخر والابتعاد عن اي نوع من الغرائز البدائية التي يوجد للاسف من يحاول جعلهم اسرى لها. هذه حالة موقتة مرت بها فئات لبنانية اخرى قبلهم... الى ان اكتشف الجميع ان الاوهام تبقى اوهاما وان الشعارات الطنانة لا تطعم خبزا ولا تبني وطنا ولا تحمي طائفة او تؤمن لها الهيمنة.
صمد اللبنانيون في وجه الشعارات الكاذبة والسلاح الميليشيوي، وسيسقطون تلك النكتة السمجة التي اسمها quot;شهود الزورquot;. هذه النكتة ليست موجودة الا في العقول المريضة كعقل ميشال عون او تلك العقول الخبيثة التي تستغل افضل استغلال جشع ذلك النائب الذي لا يستطيع ان يفوز بمقعد واحد نيابي في اي منطقة لبنانية، بما في ذلك كسروان نفسها، من دون دعم quot;حزب اللهquot; الايراني ذي العناصر اللبنانية...
كانت آخر النكات السمجة تقرير محطة quot;سي. بي. سيquot; الكندية. من يعرف القليل عن الواقع اللبناني يعرف ان لا هدف للتقرير سوى التضليل عن طريق سرد حقائق ووقائع لتسريب امور معينة تتعلق بشخص محدد. التقرير الكندي لن ينطلي على الذين يعرفون الظروف التي ادت الى اغتيال رفيق الحريري. لم يعد السؤال هل سيصدر القرار وهل ستعطل صدوره ادعاءات يطلقها الجهلة عن اختراق اسرائيلي لشبكة الاتصالات اللبنانية وكأنّ هذا الاختراق سبب كاف لتدمير الادلة والوقائع التي قد تستند اليها المحكمة الدولية.
القرار آت عاجلا ام آجلا على الرغم من كل ما يصدر من ادعاءات عن هذا الطرف او ذاك. القرار سيؤكد مجددا ان جريمة اغتيال رفيق الحريري لن تمر من دون عقاب. يكفي صدور القرار كي يحصل اللبنانيون على جزء من حقوقهم. بعد ذلك تصبح التسوية ممكنة، يصبح في استطاعة اللبناني القول انه يسامح ولكنه لن ينسى. لن ينسى خصوصا ان الجرائم لا يمكن تغطيتها بجرائم اخرى وان اوان الافلات من العقاب ولّى الى غير رجعة...