لم يفاجئ الملك محمد السادس في خطابه الاخير قبل ايام والذي حدد فيه طبيعة الاصلاحات الدستورية والخطوط العريضة لمشروع الدستور الجديد، سوى اولئك العاجزين عن فهم ما يدور في المملكة المغربية منذ ما يزيد على عقد من الزمن، اي منذ العام 1999 تحديدا عندما خلف محمد السادس والده الحسن الثاني، رحمه الله. بدأت الاصلاحات منذ اليوم الاول لصعود محمد السادس على العرش. فالاصلاحات جزء لا يتجزأ من عملية التمهيد لمشروع الدستور الجديد الذي سيكون موضع استفتاء شعبي في الاول من تموز- يوليو المقبل. بل يمكن القول ان مشروع الدستور، الذي اشار اليه الملك للمرة االاولى في التاسع من آذار- مارس الماضي والذي يتوقع ان يحصل على تأييد شعبي واسع، تتويج للاصلاحات وامتداد لها.
منذ خلافته الحسن الثاني، ركّز محمد السادس على الداخل المغربي في ضوء ادراكه نوع التحديات الكبيرة والتعقيدات الكثيرة التي تواجهه بلده ومواطنيه في بداية القرن الواحد والعشرين. فقد سئل العاهل المغربي في بداية حكمه عن القدرة التي امتلكها والده على صعيد تكريس الدور المغربي على الصعيدين العربي والاقليمي ونجاحه في ذلك، وكان جوابه:quot;لئن كان المرحوم قد رصّع اسم بلاده في الخرائط الدولية، فان همّ خليفته ان يرصّع اسم المغرب في قلب كل مواطن مغربيquot;.
لدى الحديث عن مشروع الدستور الجديد، لا يمكن تجاهل ما شهدته المرحلة التي سبقته. لا يمكن تجاهل اقرار المدونة الجديدة للاسرة التي ارتبطت باعطاء المرأة حقها الطبيعي في المجتمع ومباشرة الحرب على الفقر وازالة الغشاوة عن الذاكرة المغربية في قضية المعتقلات السرية. في هذا المجال، لا يمكن الا تذكّر انه كان لا بدّ من مصالحة بين الذين عاشوا المعاناة في هذه المعتقلات والقصر الملكي. دخل هؤلاء القصر والتقطوا صورا مع الملك. الملك لم يعد يخشى مدن الصفيح التي يتكدس فيها الفقر والفقراء، بل يدخل هذه المدن ويلتقي المقيمين فيها ويستمع اليهم، تماما كما يلتقي المعاقين الذين الذين يدفع الى ادماجهم في المجتمع... تماما كما يدخل السجون ويلتقي نزلاءها للاطلاع على اوضاعهم. هذا غيض من فيض يعطي فكرة عن اهمية ما شهده المغرب منذ العام 1999 والذي كان المقدمة الضرورية لمشروع الدستور الجديد الذي يشكل بداية صفحة جديدة في التاريخ الحديث للمملكة.
من سيقف مع الدستور الجديد ومن سيعترض عليه؟ صناديق الاقتراع ستحسم المسألة. من الآن يمكن التكهن بان المعترضين ينتمون الى مجموعات متطرفة لا تؤمن بالديموقراطية ولا بالوسطية والاعتدال. ولكن ما يمكن التكهن به ايضا ان اكثرية مغربية ستؤيده نظرا الى انه يشكل ثورة بكل معنى الكلمة ونقلة نوعية في اتجاه مستقبل افضل مرتبط بكل ما هو عصري وحضاري من دون التخلي عن الثوابت المغربية. للمرة الاولى هناك نص دستوري طموح يطرح مسائل كان التطرق اليها محظورا. تشمل هذه المسائل الهوية الوطنية. كان تحديد هذه الهوية الوطنية موضع اخذ ورد ونقاشات طويلة. لكنّ الدستور الجديد حسم الامر بتاكيده quot;ان المملكة المغربية دولة اسلامية ذات سيادة كاملة متشبثة بوحدتها الوطنية والترابية وبصيانة وتلاحم مقومات هويتها الوطنية الموحدة بانصهار كل مكوّناتها العربية- الاسلامية والامازيغية والصحراوية الحسانية، والغنية بروافدها الافريقية والاندلسية والعبرية والمتوسطيةquot;.
انها هوية منفتحة تدل على مدى تعلق المغرب بكل ما هو حضاري في هذا العالم بعيدا عن اي نوع من العقد. فالدستور يؤكد ان quot;العربية تظل اللغة الرسمية لللدولة وتعد الامازيغية لغة رسمية للدولة ايضاquot;. المغرب لا يخجل بتاريخه وهو يعترف بان اللغة الامازيغية صمدت آلاف السنين وانها لغة السكان الاصليين اضافة الى انها امتلكت مؤهلات تجعلها قابلة للاستمرار والتجدد.
في هذا العالم الذي يتغيّر، باتت هناك قناعة مغربية بان كل شيء قابل للنقاش والتطور. ولذلك تطرق الدستور الى صلاحيات الملك الذي يظل quot;امير المؤمنينquot; ورئيس الدولة. كذلك هناك تعديل لصلاحيات الوزير الاول الذي صار quot;رئيس الحكومةquot;. الاهمّ من ذلك ان رئيس الحكومة هو من ياتي على راس الحزب الذي يحرز اكبر عدد من المقاعد في الانتخابات العامة.
المغرب الى اين؟ الاتجاه الى ملكية دستورية حقيقية في ظل دستور يشجع على قيام حياة حزبية نشطة. السؤال الاخر الآن: هل يرتقي زعماء الاحزاب والتيارات السياسية المغربية الى مستوى التحدي ليضمنوا تطبيق الدستور بطريقة سليمة بما يحمي حقوق المواطن ويرسخ الحياة الديموقراطية ويساهم في تطويرها؟
لا شكّ ان مشروع الدستور بما يتضمنه من مواد يوفر كل الضمانات المطلوبة كي تكون هناك حياة سياسية سليمة الى حدّ كبير. فما يشهده المغرب اليوم هو ثورة جديدة بكل معنى الكلمة، لكنها ثورة هادئة تستهدف قطع الطريق على كل من يحاول الدخول في لعبة المزايدات ونشر الفوضى والتطرف في المملكة. باختصار شديد هناك اسس يمكن البناء عليها لمتابعة عملية الاصلاح بعيدا عن اي نوع من الضغوط المستجدة بسسب الاوضاع الاقليمية المعقدة...
لقد برهن المغرب في ضوء ما جرى في تونس ومصر وما تشهده الجزائر من غليان، لا تحدّ منه سوى العائدات المرتفعة للنفط والغاز، انه دولة مؤسسات عريقة اوّلا. تكمن اهمية هذه المؤسسات في انها قابلة للتطوير والانتماء الى العصر. فمشروع الدستور الجديد لا يكتفي بانشاء اجهزة رقابة على كل المستويات فحسب، بل يشجع ايضا المغاربة صراحة على دراسة اللغات الاجنبية الحية المتداولة عالميا. في النهاية، هناك قناعة بان الحرب الاهمّ التي يخوضها المغرب هي الحرب التي يواجه فيها الفقر. الفقر يختزل كل المشاكل. لا بدّ من خوض هذه الحرب من زوايا مختلفة وبكل الوسائل بغية خلق واقع سياسي جديد في البلد. من بين هذه الزوايا الاهتمام بالتعليم والمجتمع بما في ذلك نشر الوسطية والاعتدال والانفتاح لمواجهة التطرف بكل اشكاله. ليس مشروع الدستور سوى وسيلة من بين وسائل اخرى للنهوض بالمملكة ونقلها الى مصاف الدول العصرية التي تكمن اهميتها في ان الانسان ثروتها الاولى. الدستور وسيلة والانسان المغربي هو الغاية!