يوسف مكي
في سلسلة مقالاتنا التي بدأنا بها قبل أربعة أسابيع عن المستقبل التركي بعد نتائج الانتخابات البرلمانية الأخيرة، انتهينا بالسؤال عما إذا كان الإسلام السياسي قد تمكن من حسم الصراع نهائياً مع المؤسسة العسكرية لمصلحته، أم أن ما يحدث الآن هو استراحة محارب؟ تساءلنا أيضاً عن الأسباب التي حرّضت حكومة أردوغان على تغيير مواقفها السياسية والاستراتيجية، وتبني مواقف تندفع بقوة نحو اليمين، متسقة مع تدخل حلف الناتو في ليبيا؟ وأيضاً تزعزع العلاقة مع النظام السوري، بعد الحركة الاحتجاجية التي عمت المدن السورية في الشهور الأخيرة؟ هل يمثل ذلك انتقالاً آخر نحو الغرب، ومغادرة لاستراتيجية التوجه نحو العمق الاستراتيجي في الشرق والجنوب؟
وابتداء، نذكر بأن حزب العدالة والتنمية الذي يقوده أردوغان، رغم تبنيه لمواقف تبدو راديكالية، تجاه الغرب والكيان الصهيوني، لم تبلغ خلافاته معهما مستوى القطيعة . كان أردوغان بسياساته هذه يضيف أرصدة جديدة إلى علاقة تركيا بالخارج، ولم يعمل على إضعافها بمكان، وتقويتها بمكان آخر . أما أعضاء الناتو، فكانوا حريصين على استمرار دور تركيا في الحلف، بسبب ثقل موقعها الاستراتيجي، وقربها من حدود روسيا الاتحادية شمالاً، وإيران شرقاً والوطن العربي جنوباً .
الأمر نفسه لا يختلف بالنسبة إلى موقف الكيان الصهيوني من تركيا، فحكومة نتنياهو لا ترى مبرراً كافياً، لقطع الوصل مع أردوغان، ولا تعدّ موقف الحكومة التركية من القضية الفلسطينية أكثر من محاولة لتعزيز الحضور التركي في العمق العربي . ومن هذا المنظور، فإن تركيا يمكن أن تكون وسيطاً مستقبلياً مع السوريين نتيجة لرصيد تركيا مع النظام السوري الذي ساد إلى ما قبل اندلاع الحركات الاحتجاجية الأخيرة بالمدن السورية .
بمعنى آخر، إن جميع الأطراف، اتفقوا على أنه ليس من المصلحة تردي العلاقات الاستراتيجية والسياسية في ما بينهم . وبالنسبة إلى الأتراك فإنهم بسياستهم الجديدة، ضمنوا علاقة متميزة مع الغرب ومع الشرق والجنوب في آن معاً . وحين يتعلق الأمر بأردوغان شخصياً، فإنه ضمن عدة مواقع، بضمنها رضا العسكر الذين يخشون اختلال المعادلة التركية في العلاقة مع الغرب التي سادت منذ عهد أتاتورك، واستمرت في حلقات متصلة، بقليل من الإشكالات . كما ضمن حضوراً تاريخياً قوياً، باعتباره الزعيم التركي الذي توجه بحسم نحو العرب والمسلمين، وناصر القضية الفلسطينية .
أما التأييد التركي للغرب والقبول بتدخلات الناتو في الشؤون الداخلية ببلدان الثورات العربية، فهناك جملة من الأسباب التي تجعل الموقف التركي مفهوماً، وإن لم يكن مقبولاً لكثير من العرب .
لن يقبل الأتراك بتكرار تجربتهم مع العراق، في مكان آخر، وبشكل خاص حين يكون البلد المستهدف هو سوريا، البلد الذي يشبه العراق من وجوه كثيرة، لعل أهمها وقوعه على حدود تركيا الجنوبية، ولوحته الدينية والأثنية الفسيفسائية، ووجود نظام مماثل يقود المجتمع والسلطة . ولأن لأتراك يدركون طبيعة المشاريع الغربية، والتصميم على تنفيذها، فإن الموقف البراغماتي الذي طبع مسار حزب العدالة والتنمية، منذ تأسيسه، بعد سقوط حكومة نجم الدين أربكان يحتم على حكومة أردوغان التنسيق الكامل مع الغرب، في تحديد مستقبل الثورات العربية .
إن تداعيات الأحداث في البلدان التي برزت فيها الاحتجاجات العربية، تسهم هي الأخرى في تقديم الدعم لموقف الحكومة التركية . فهذه الاحتجاجات، ليست موضع إجماع من كل العرب، والانقسام حولها، بين مؤيد ومعارض، هو بمستوى التكافؤ . والتدخلات الغربية في البلدان العربية، تأتي بمنطق مختلف عن الذرائع التي سيقت كمبرر لاحتلال العراق . فالهدف المعلن هنا، هو حماية المدنيين العزل والدفاع عن قيم الحرية والديمقراطية، وهو هدف إنساني ونبيل، يضيف تدخل الأتراك، من وجهة نظرهم عناصر جديدة تسهم في ترشيده وتوجيهه .
والنتيجة أن تدخل تركيا في شؤون سوريا، بخلاف التدخل الإيراني في شؤون العراق، يحظى بدعم واسع من عدد كبير من قنوات التلفزة العربية، وينظر إليه من قطاع واسع من الجمهور، على أنه خطوة عملية وإيجابية لمساندة الثورة الشعبية السورية، خاصة بعد تدخل الجيش السوري في جسر الشغور ومعرة النعمان، ومناطق أخرى قريبة من الحدود التركية . لقد نتج عن تدخل الجيش السوري في هذه المناطق، عبور ما يقرب من عشرة آلاف لاجئ سوري إلى تركيا، فتحت لهم مخيمات من قبل حكومة أردوغان، لتلبية احتياجاتهم من المأوى والغذاء .
علاوة على ذلك، فإن ما يطلق عليه مجازاً بربيع الثورات العربية، هو في حقيقته ربيع لحركة الإخوان المسلمين التي يعد حزب العدالة والتنمية أحد تفرعاتها . وإذاً، فنصرة هبة الإخوان المسلمين في سوريا، ينظر إليها من قبل حكومة رجب طيب أوردغان، على أنها نصرة لإخوة في الإسلام والجهاد .
ويشجع الحكومة التركية على اتخاذ موقفها هذا، أن حركة حماس التي شهدت انقساماً بين الداخل والخارج، حول الموقف الذي ينبغي تبنيه تجاه أحداث سوريا، ما لبتثت أن تمكنت من تجاوز خلافاتها . لقد أسهمت حركة الإخوان المسلمين في مصر، في التخفيف من حدة الخلاف بين الحركة في قطاع غزة ومركزها في دمشق، بالتلويح بأن القاهرة يمكن أن تكون مقراً مثالياً بديلاً عن دمشق لزعيم حركة حماس، خالد مشعل، بما يعني أن الضرر الذي يلحق بحماس من جراء سقوط نظام دمشق ليس بالحجم الذي تخيلته قيادة حركة حماس بالخارج في بداية انطلاق الحركة الاحتجاجية .
وربما تبادر إلى ذهن صانع القرار التركي، أن بلاده لن تخسر أي شيء في حالة فشل مشروع ldquo;الثورةrdquo;، واستمرار النظام في الحكم . فهم في كل الأحوال يملكون اليد العليا، إن في السيطرة على مياه الفرات، أو من حيث تحكمهم بخط الترانزيت المتجه للبلدان العربية، عبر الأراضي السورية، أو في حاجة الحكم السوري إلى وسيط يثق في نزاهته في حالة عودة المفاوضات السورية مع ldquo;الإسرائيليينrdquo; . إن ذلك يعني بداهة، عودة الأتراك بقوة إلى المسرح السوري، واستعادة العلاقة الاستراتيجية بين البلدين .
تلك هي صورة المشهد التركي، في علاقته بالأحداث الجارية الآن على الساحة السورية، وهو مشهد ستتكفل الأيام المقبلة بالحكم سلباً أو إيجاباً عليه، وليس علينا سوى الانتظار .
التعليقات