محمد بن عبداللطيف أل الشيخ

في آخر خطاب له وصف القذافي دول الخليج بأوصاف بذيئة، وكال من الشتائم ما لا يمكن أن يقوله سياسي، في أي عصر، حتى في عصر (داحس والغبراء)، أقرب العصور لمنطق وعقلية العقيد. واضح من خطابه الأخير أن الرجل (محتقن) لأقصى درجات الاحتقان، ويبدو أنه بدأ يشعر أن لحظة السقوط قد أزفت، وليس في يديه إلا أن ينتظر مصيره المحتوم، والثوار يزحفون إلى طرابلس، فيقتربون من قصره شيئاً فشيئاً، ويُضيِّقون عليه الخناق، ونظامه يتفكك، والثوار يكسبون مزيداً من اعتراف دول العالم في كل يوم جديد، فلم يجد ليُفرّج عن كرباته إلا الشتم والبذاءة والسب وقلة الأدب وتخوين الآخرين، وعادة ما تجد الإنسان الذي يُسقَطُ في يده، ويُفلس، ولا يجد منطقاً مقنعاً يدافع به عن قضيته، يلجأ إلى الشتم والسب والفجور في الخصومة. وهو بهذا الأسلوب يُسيء إلى نفسه في حين يظن أنه ينتقم من الآخرين؛ ولن يُغير تشفيه وشتمه وبذاءاته من الواقع شيئاً.

القذافي ساقط لا محالة، فالقضية قضية وقت ليس إلا؛ مشكلة ليبيا التي سوف تعاني منها كثيراً وطويلاً في تقديري هي مرحلة ما بعد سقوط القذافي؛ فهي ستكون أخطر وربما أعقد من مرحلة إسقاط نظام العقيد.

السلاح بمختلف أنواعه منتشر بين الأهالي بشكل كبير، ومُخَزّن مع ذخيرته في منازلهم، والشباب تدربوا على السلاح، واستمرؤوا التعامل معه، واللجوء إليه، والاحتماء به. الثوار الآن يجمعهم العدو المشترك، ووحدة الهدف؛ ولكن عندما ينتهي نظام القذافي، ويسقط العدو، ستنشأ حتماً خلافات وتنافس بين الثوار، وبالذات على اقتسام (غنيمة) ما بعد الحرب.. فترة ما بعد السقوط - كما أتوقع - ستكون زاخرة بالتنافسات والاختلافات والاحتكاكات بين فئات الليبيين؛ مما قد يجعل للسلاح، وللشباب المحاربين، دوراً مفصلياً في حسم هذه الاختلافات؛ وهذا سيشكل لليبيين مشكلة مستقبلية حقيقية وخطيرة في آن. صحيح أن هناك اتفاقاً بين قيادات الثوار على الاحتكام إلى دولة الدستور والديمقراطية وصناديق الانتخابات بعد سقوط القذافي؛ غير أن دولة الأنظمة والقوانين لن تولد بين ليلة وضحاها، وإنما تحتاج إلى الكثير من الوقت والتجارب الطويلة والمُضنية لكي تُشكل نظاماً ومؤسسات قادرة على صناعة وتشغيل دولة؛ خاصة وأن ليبيا القذافي تفتقر إلى أبسط مقومات الدولة الحديثة في كل شيء تقريباً، فهناك تجربة عبثية فوضوية تسمى دولة المؤتمرات الشعبية، هذه المؤتمرات حوّلت الدولة، ومؤسسات الدولة، إلى كيانات هزيلة يَحكمها الغوغاء ويسيطر عليها العقيد من وراء الكواليس؛ وفي تقديري أن هذه التجربة (العبثية) تحديداً كانت من أهم الأسباب التي أدت بنظام القذافي إلى الفشل، وألَّبت شعبه عليه.

ورغم الخوف من المستقبل، إلا أن هناك عوامل إيجابية تصب في مصلحة ليبيا، خاصة إذا ما قارناها بما جرى في العراق بعد سقوط صدام، وتحول العراق إلى النظام الديمقراطي. ليبيا تتشكل تقريباً من نسيج (طائفي) واحد، وجميعهم عرب، وقلة قليلة من الأمازيغ لا يتجاوزون 5 % من السكان، وليس بينهم وبين العرب أية حساسيات أو ثارات تاريخية؛ كما أن النسيج القبلي الذي يتكون منه المجتمع الليبي نسيج متجانس إلى حد كبير؛ بينما التحدي الذي واجه الديمقراطية في العراق وأنهكها - ومازال - نابع من (التناحرات الطائفية) وتنوع الأقليات الإثنية. وهذا لا يعني أن بناء دولة ما بعد القذافي ستكون سهلة، ولن تعترضها تحديات، ولكن (التحديات) التي ستواجه ليبيا الجديدة ستكون مختلفة، أهمها على الإطلاق انتشار السلاح، وغياب المؤسسات، والشباب المحاربون، وكذلك أن ينزلق الثوار إلى مستنقع (الانتقام) من نظام العقيد، وتغييب روح التسامح، مما قد ينتهي إلى حرب أهلية حقيقية لا سمح الله.