خيرالله خيرالله


هل هي بداية إعادة رسم بالمبضع لخريطة العالم العربي... أم أنها مجرد ناقوس خطر سيجعل العرب يستوعبون مخاطر المرحلة الجديدة التي دخلها الشرق الأوسط، أي مرحلة بدء تقسيم الدول؟ بدأ كل شيء بالزلزال العراقي الذي قلب المعادلة السياسية في المنطقة رأساً على عقب. يبدو أنه جاء الآن دور إعادة النظر في الخريطة الجغرافية انطلاقاً من السودان أكبر الدول الافريقية مساحة، قبل تقسيمه إلى دولتين طبعاً.
الأكيد أن قيام جمهورية جنوب السودان ليس حدثاً عابراً. هناك للمرة الأولى إعادة نظر في الخريطة الجغرافية للشرق الأوسط منذ حصول دوله العربية على استقلالها على مراحل منذ الأربعينات من القرن الماضي وصولاً إلى السبعينات عندما انسحبت بريطانيا نهائياً من منطقة الخليج العربي.
من إيجابيات الحدث السوداني مسارعة الخرطوم الى الاعتراف بالدولة الجديدة. تلى ذلك حضور الرئيس عمر حسن البشير الاحتفال الذي شهدته جوبا، عاصمة الدولة الجديدة، وتخلله الاعلان رسمياً عن قيام جمهورية جنوب السودان ورفع علمها. كان تصرف الرئيس السوداني حكيماً وشجاعاً في آن. وقد اتبعه بالتوجه بعد أيام الى الدوحة لحضور توقيع اتفاق بشأن دارفور رعته قطر. يتعامل البشير مع الواقع كما هو بعيداً عن الأوهام. ربما كان يفعل ذلك بهدف انقاذ ما يمكن انقاذه ووضع حدّ لعملية تفتيت السودان. ربما كان يتصرّف أيضاً من منطلق شخصي بحت عائد إلى أنه ملاحق من المحكمة الجنائية الدولية وهو على استعداد للقيام بكل شيء من اجل انقاذ نظامه والبقاء رئيساً. وحدها الايام ستكشف هل رهانات البشير في محلها وهل هناك من هو على استعداد للدخول في صفقات معه؟ بكلام اوضح، هل يكفي القبول بتقسيم السودان ومباركة قيام الدولة الجديدة والاستعداد لتفادي اللجوء الى القوة لحل مشكلة ابيي الغنية بالنفط وابداء الرغبة في التوصل الى حلول في دارفور، كي يقبل المجتمع الدولي بالبشير رئيساً للسودان إلى اشعار آخر؟
في كلّ الأحوال، ان ما نشهده حاليا في المنطقة العربية يمكن أن يكون نتيجة طبيعية لعاملين اساسيين ساهما معا في وصول الشرق الأوسط إلى ما وصل اليه. يتمثل العامل الاوّل في فشل معظم الانظمة العربية القائمة، على رأسها الأنظمة التي تسمّي نفسها جمهوريات، في ايجاد وسيلة للتعاطي مع الشعوب، خصوصا مع الاقليات. اما العامل الثاني فهو الزلزال العراقي الذي حصل في العام 2003.
لدى الحديث عن العامل الأوّل، لا يمكن الفصل بين تقسيم السودان من جهة والقمع الذي تعرّض له سكان الجنوب من جهة اخرى. كان الجنوبي، منذ الاستقلال في العام 1956، مواطنا من الدرجة الثانية باستمرار. ومن اتيحت له زيارة جوبا يدرك بالملموس معنى كلمة الاهمال بكل ما للاهمال من ابعاد ومعنى، بما في ذلك العناية الصحية وحتى تعبيد الطرق. كان كلّ همّ الأنظمة الجمهورية العربية، باستثناء لبنان الذي لا حول له ولا قوّة، محصوراً في إيجاد الوسائل الكفيلة بالمحافظة على النظام وايجاد طريقة تضمن للرئيس توريث ابنه او زوجته، كما حصل في تونس مثلاً، أو الاخ كما يحصل حاليا في احد بلدان شمال افريقيا!
طغى همّ التوريث على كل ما عداه، خصوصاً بعد النجاح الذي حققه الرئيس الراحل حافظ الاسد بالاتيان بنجله بشّار الى الرئاسة. جنت التجربة السورية على مصر وحتى على ليبيا. يدفع الرئيس حسني مبارك حالياً ثمن اعتقاده في مرحلة معينة، بضغط من زوجته وتشجيع من المنافقين في الحاشية، انه سيكون قادراً على الاتيان بنجله جمال رئيساً.
كانت المصالحة مع الشعب غير واردة. كان الحاكم العربي يعتبر نفسه في مكان آخر معزولاً تماما عن الشعب. كان هذا الحاكم يستمد شعبيته من الاجهزة الامنية. ولذلك كان طبيعيا ان يحصل هذا الفصام بين الحكام والشعوب الذي كان تقسيم السودان احدى نتائجه.
ساعد الزلزال العراقي في التمهيد للمشهد العربي الراهن والتهيئة له. لم تؤد الحرب الاميركية على العراق الى اسقاط النظام العائلي- laquo;البعثيraquo; الذي اقامه صدّام حسين فحسب، بل غيّرت ايضا كل التوازنات القائمة في الشرق الاوسط منذ انتهاء الحرب العالمية الاولى وانهيار الدولة العثمانية وتشكيل الخريطة الحالية للمنطقة. كان العراق الذي عرفناه ركيزة من ركائز الشرق الاوسط. انهارت هذه الركيزة. من هذا المنطلق، اي في ضوء غياب الثقة بين الحكام والشعوب، حتى لا نقول احتقار الحكام للشعوب، وحال فقدان التوازن التي دخلها الشرق الاوسط، يخشى ان يكون تقسيم السودان مجرد بداية. انها منطقة تتغيّر. ما شهدناه حتى الآن ليس سوى الجانب الظاهر من جبل الجليد لا أكثر.