ذكر الرحمن

استأثرت سوريا مؤخراً باهتمام واسع في ضوء ورود تقارير عن أعمال عنف وقتل من كل محافظاتها الكبيرة تقريباًَ؛ غير أن بعضاً من أكثر المواجهات دموية تحدث في مدينة حماة، التي شهدت قمعاً وحشياً على أيدي القوات السورية قبل حوالي ثلاثين عاماً. ولا زلت أتذكر دخولي لهذه المدينة في الحادي والعشرين من فبراير 1982 عندما كانت الصدامات بين سرايا الدفاع بقيادة رفعت الأسد وسكان حماة المدنيين في أوجها. حينها كنت دبلوماسياً مبتدئاً في السفارة الهندية بدمشق، وكنا قلقين بشأن مصير العشرات من المواطنين الهنود الذين كانوا يعملون في عدد من المصانع بمدينة حماة الصناعية التي كانت قريبة من هذه المدينة العتيقة.


وسائل الاتصال الحديثة لم تكن موجودة في ذلك الوقت، ولم يكن لدينا اتصال مباشر بالجالية الهندية هناك. ورغم التحركات المتكررة في وزارتي الداخلية والخارجية، فإننا لم نكن نتلقى أخباراً حول سلامة الهنود أو أماكن وجودهم.
وبصفتها زعيمة لحركة عدم الانحياز، كانت للهند علاقات ممتازة مع الرئيس السابق حافظ الأسد، الذي كان يعتبر زعيماً تقدمياً إلى جانب العقيد الليبي معمر القذافي، والرئيس الجزائري الشاذلي بن جديد، ورئيس اليمن الديمقراطي علي ناصر محمد. فوجه الرئيس الأسد تعليمات لمصطفى طلاس، وزير الدفاع وقتئذ، بالسماح للسفارة الهندية بإجلاء الهنود وعائلاتهم العالقين في مدينة حماة الممزقة. وكلفتني الحكومة الهندية بمهمة الذهاب إلى هناك لهذا الغرض. وفي ليلة العشرين من فبراير، اتصل بي رائد في الجيش السوري يدعى أبوعباس ليخبرني بأننا سنذهب إلى حماة في ساعة مبكرة من صباح اليوم التالي. وهكذا، وصل على متن مدرعة رباعية الدفع سوداء وغادرنا دمشق.

ولدى وصولنا إلى أطراف حماة، وجدت مدخل المدينة مقطوعاً بعشرات الدبابات. وداخل المدينة المحاصرة رأيت نتيجة القصف الذي حول المباني السكنية إلى أنقاض؛ وكانت رائحة الجثث المتفحمة تملأ الشوارع. كان المشهد مقززاً ومخيفاً في الوقت نفسه. وكانت حماة تبدو كمدينة أشباح حيث المركبات العسكرية فقط هي التي تجوب المنطقة.

قُدمت لعقيد في الجيش يدعى فؤاد إسماعيل، الذي أخذ قائمة بالعمال الهنود واستفسر عن المصانع التي يشتغلون فيها. وبعد أكثر من ثماني ساعات من الانتظار، فترة بالكاد استطعتُ الأكل أو الشرب فيها على الرغم من كرم مضيفي الجنرال علي حيدر، قائد القوات الخاصة، رأيتُ هنوداً مرعوبين يصلون على متن شاحنات. جميعهم تقريبا كانوا خائفين، ويبدون شاحبين ومتقززين ويتوقون للهرب من هناك. وقد حكوا لنا لاحقاً قصصاً مروعة حول ما عاشوه وشاهدوه وسمعوه من السكان المحليين، حيث قُتل ما بين 15 ألفا و20 ألف رجل وامرأة وطفل في مدينة حماة العتيقة وحدها، حسب بعض التقارير.

وفاة الرئيس حافظ الأسد في 2000 أفضت إلى خلافة فريدة من نوعها في تاريخ الدول العربية غير الملكية. ومع ذلك، يمكن القول بشكل عام إن تسليم الرئاسة السورية لطبيب العيون بشار لم يثر استغراب أحد، حيث كان الغرب حريصاً على تقديمه كإصلاحي محتمل على اعتبار أنه عاش وعمل في بريطانيا لسنوات. والحال أن مؤهلاته السياسية كانت وراثية فقط. ولكنه قدم وعوداً من النوع الذي يروق للغرب. وفي الوقت نفسه، كان يُنظر إليه من قبل زمرة الحكم العلوية/ البعثية في دمشق باعتباره أفضل المتاح لتعزيز سلطتهم؛ وكانوا واثقين من أن أي دافع أو حافز للإصلاح قد يمتلكه بشار يمكن كبحه. وقد كانوا محقين في ذلك. فاليوم، قد يكون مستوى القمع قد انخفض شيئاً ما، ولكن بشكل عام يمكن القول إن الاستمرارية تفوقت على التغيير.

الاحتجاجات الأولى التي عرفتها سوريا في أعقاب الانتفاضتين التونسية والمصرية كانت تميل إلى تصور الإصلاح. ولكن وعود النظام الفارغة السابقة، ورده القمعي الحالي يبدو أنهما جعلا السوريين يشعرون بأن أي تحول جدي يجب أن يشمل إسقاط التسلسل الهرمي التي يمسك بالسلطة منذ أربعة عقود.

وعلى الرغم من أن الحكومات الغربية ترغب اليوم في لعب دور نشط وفعال في خلع التحالف العلوي/البعثي، فإنها لن تستطيع القيام بذلك بسبب إساءة استعمالها لقرار مجلس الأمن الدولي بخصوص ليبيا. وعلى الرغم من أن الضغط الدبلوماسي على دمشق يزداد ويتكثف، فإنه لا يوجد مؤشر على أن الغرب سينجح في إصدار قرار من النوع نفسه.

الأسبوع الماضي، عندما طرحت القوى الغربية قراراً ضد سوريا بخصوص انتهاكات حقوق الإنسان واستعمال القوة ضد المدنيين، أُرسل نائب وزير الخارجية السوري فيصل مقداد إلى الهند كمبعوث ليطلب من الهند استعمال نفوذها في مجلس الأمن الدولي ومنع الغرب من الدفع في اتجاه استصدار القرار.

وقد كان السوريون يرغبون في إشراك الهند بخصوص هذا الموضوع نظرا لحقيقة أن الهند، وهي عضو غير دائم، تتولى حالياً الرئاسة الحالية لمجلس الأمن الدولي. وخلال لقاءاته مع وزير الخارجية الهندي ومسؤولين رفيعين آخرين، حاول مقداد أن يقنع مضيفيه بأن سوريا ضحية دعاية زائفة، رغم أنه في اليوم نفسه الذي وصل فيه إلى دلهي أفادت بعض التقارير بمقتل 135 شخصاً في الاحتجاجات. وبدلاً من الحديث حول الأزمة الداخلية في سوريا، اختار المبعوث السوري التركيز على الرد الخارجي على التطورات في بلده فأنحى باللوم على قنوات إخبارية دولية مثل quot;سي. إن. إنquot; وquot;بي. بي. سيquot; وquot;الجزيرةquot; وquot;العربيةquot; وحملها مسؤولية تضليل وفبركة الأخبار ضد سوريا.

ولكن الرسالة من الهند كانت قوية وواضحة ومؤداها أن العنف الذي يتعرض له المدنيون غير مقبول، وأن استعمال القوة بشكل عشوائي لإخماد الاحتجاجات يجب أن ينتهي. وقد طُلب من بشار، الذي دعا الحكومة السورية إلى ممارسة ضبط النفس ونبذ العنف، التعجيل بتطبيق إصلاحات تأخذ في عين الاعتبار تطلعات الشعب السوري. بل إن حتى روسيا، التي تعد حليفاً لسوريا وتعارض أي قرار مناوئ لها، باتت تقول إن بشار سيلقى مصيراً حزيناًًً إن هو لم يطبق إصلاحات ويتصالح مع المعارضة. ولا بد من التشديد في الختام على أن قتل المدنيين، بالآلاف مرة أخرى في سوريا، أمر خطير جداً، وإذا لم يتم إيجاد مخرج للأزمة، فإن أصداء الفظاعات في درعة ودير الزور وحمص وحماة سيتم ملاحظة تداعياتها عبر العالم العربي.