محمد الحافظ

عبر الثورات العربية التي اندلعت مؤخرا عن تحول جديد في السلوك والذهنية السياسية العربية التي وصمت في العقود الأخيرة في الإعلام الدولي بأنها قرينة العنف، حتى أن كثيرين من أعداء أمتنا ما فتئوا يحاولون وصم السلوك العربي بأنه إجرامي وعنفي وغير حضاري، وقد أبرز الإعلام الأفعال النضالية لردة الفعل العربية الإسلامية على أنها إرهاب، غير أن وقائع كثيرة أثبتت دائما أن التطرف والإرهاب ظواهر إنسانية عامة، والذين أقاموا الدنيا وأقعدوها في أحداث الحادي عشر من سبتمبر 2001 لم يتصرفوا بنفس الدرجة عندما وقع حادث أكلاهوما سيتي (19 أبريل عام 1995) الذي تبين لاحقا أن منفذه ينتمي لجماعة يمينية أميركية متطرفة، وكذا حادث النرويج الأخير.
ومثلت السنوات العشر الأولى من القرن الواحد والعشرين نموذجا واضحا لاستهداف الصهيونية العالمية للعالم العربي بمشاريع حاولت مسخ أنظمة التعليم وإفسادها، كما جاءت هجمة المحافظين الجدد فكانت عودة الاحتلال الأجنبي لبلدين شكلا عبر تاريخهما رمزا للعزة والمنعة في الأمة العراق بتاريخه الحضاري الزاخر وأفغانستان باعتزازها بالإسلام جهادا وحضارة.

التغير والعنف
ارتبط التغير السياسي بالعنف في تاريخ الإنسان منذ فترات بعيدة، وعندما توصلت تحولات النظم الغربية للآليات التداول السلمي على السلطة اعتبر ذلك إنجازا حضاريا وإنسانيا هاما لا يقل في أهميته عن الثورات الصناعية والتكنولوجية التي طوعها الإنسان الغربي وسخرها لخدمة حياة أكثر رفاهية وتحضرا، ولكن التجربة الديمقراطية الغربية ظلت حبيسة اليابسة الأوروبية، ولم تنتقل للضفة الجنوبية للمتوسط مثلها مثل الصناعة والتكنولوجيا لأسباب تتعلق بالصراع الحضاري بين الضفتين وسعي الغرب المسيحي السيطرة على العالم الإسلامي من أيام الحروب الصليبية منذ ألف عام وحتى الآن.
ارتباط التحولات الاجتماعية بالعنف والصراع على السلطة وامتيازات الثروة والنفوذ هي قصة تاريخ الإنسان أيا كان لونه أو دينه أو مكانه أو خلفيته الحضارية وبالتالي، فالعنف وسيلة الإنسان للسيطرة في الصراع الممتد الذي يشكل جزئا من سنة الله في الخلق حيث الابتلاء المتجدد للأجيال بني آدم بالشر والخير وصراعهما المستمر إلى قيام الساعة.
ويخطئ كثيرون من أبناء الأمة حين يتصورون أنه يمكن للأمة أن تنهض من جديد دون تضحيات متعددة الأوجه، ذلك أن ركام قرون من الأفكار المميتة لا يزال مهيمنا على نخب أمتنا، ومستقر العادة التاريخية أنه لا بد للتدافع الاجتماعي من أن يصفي ما يصلح من هذا الركام الحي والمزدهر في الوقت الحالي بشكل غير مسبوق، الذي يوجد على شكل مشاريع فكرية وتيارات سياسية فاعلة في الأمة، وأظن أنه لا يمكن لعقل الأمة هضم كل هذا الركام إلا عبر تحولات متعددة قادمة لا يشكل ما نشاهده الآن من ثورات إلا بداية لدوران الرحى بما تراكم خلال العقود الأخيرة، وستواصل الرحى دورانها لتؤدي التحولات المستمرة في المحصلة النهائية لانبثاق حراك آخر يبدل ويلغي بعض معالم المشهد الحالي أفكارا ومشاريع وأنظمة وربما دول.

بذور فلسفة اللاعنف
من خلال السياق المتقدم سيدرك كل منصف أن العنف هو أهم وسائل الصراع في تاريخ الإنسانية، ولا يمكن أن ينفصل عن الإنسان، ولكن قيم الإنسان هي التي تترك بصمات واضحة على نوعية العنف، فقد هذبت رسالات السماء الممارسات الحربية وقيدتها بالضوابط الأخلاقية، وكان حظ الإسلام من تلك الأخلاق واسعا وتشهد تجربة المسلمين التاريخية على ذلك، خصوصا في فترة ازدهار حركة الجهاد والفتوح الإسلامية خلال القرون الأولى.
وقد غلبت الحرب الدفاعية على تجربة المسلمين الحربية حتى أنكر بعض الفقهاء الحرب الهجومية واعتبرها غير شرعية من الناحية الفقهية، وإذا ما عدنا للسيرة النبوية الشريفة فسنرى أن الفترة الزمنية التي استغرقتها رسالة الإسلام في الموادعة والكف عن القتال كانت واسعة جدا بالمقارنة مع الفترة التي شرع فيها سل السيف لردع الكفر وتصفيته من دار الإسلام، وعند استقراء تنزل التشريع في هذا السياق نجد أن روحه العامة اتجهت إلى بناء استراتيجية لدرء العدوان لا تسرف في فتح الباب للحرب المفتوحة في وجه المعاندين والمناوئين.
وفي الحج عام صلح الحديبة دخل المسلمون مكة وهم محرمون، فشرع النبي صلى الله عليه وسلم لهم كشف سواعدهم في الإحرام، وقال صلى الله عليه وسلم: laquo;فلنرهم منا قوةraquo; في إشارة عميقة الدلالة على أن الرسول الكريم كان يريد من خلال هذا السلوك التأثير على العامل النفسي لدى الأعداء وإظهار عناصر القوة رغم التنازلات التي قدمها. وغلبت فلسفة رفض التغيير الاجتماعي عبر أعمال العنف، ولهذا نلاحظ أن فقهاء أهل السنة رجحوا في القرون المتأخرة الصبر على الاستبداد السياسي فقالوا laquo;حاكم غشوم خير من فتنة تدومraquo;، وكأنهم رأوا في استعمال القوة لتغير الحاكم مخاطر الفتنة وسفك الدماء بين المسلمين.
ونلاحظ كيف أن تيارات كبيرة ومؤثرة في الأمة اتجهت إلى سلوك مجانبة الصراع السياسي واتجهت إلى إصلاح القلوب والأرواح وتجارب مدارس الفقه والحديث في القرون الأولى خير شاهد، وكذا الحركات الصوفية في العالم الإسلامي التي ركزت على إصلاح النفس مدخلا للإصلاح الاجتماعي والسياسي.
وقد بنت تلك المدارس الإسلامية التي اتجهت لإصلاح السلوك نفوس الشعوب وهذبتها بالتزكية والتعليم وارتقت بالشعور العام ودفعت دائما نحو التغير من مدخل تغيير ما بالنفس وهيأت مناخ التوبة والأوبة والمناصحة، وذلك هو أنسب مدخل لتغيير ما بالأنفس {إِنَّ اللَّهَ لَا يُغَيِّرُ مَا بِقَوْمٍ حَتَّى يُغَيِّرُوا مَا بِأَنْفُسِهِمْ}.
وما نشاهده اليوم في واقع الثورات العربية الراهنة من التفاف حول المساجد والجمعات دليل على أن التراكم الذي أحدثته الصحوة الإسلامية عبر العقود الماضية أدى دوره الإيجابي، وها هي الأمة تتجاوز بهذه الثورات عصر الصحوة نحو عصر اليقظة والنهضة عبر الفعل النضالي السلمي الرافض للعنف رغم الدماء التي يسفكها حكامنا المستبدون في أكثر من مكان.
إن شعوبنا بثوراتها ردت كيد التهم التي طالما وصمتها بنعوت العنف والإرهاب، وها هي تخرج للعالم صورة تضحيتها في سبيل الحرية والكرامة بعيدا عن العنف والتطرف وهذا السلوك الثوري في الأمة اليوم يكفي لكتابة انتصار اللاعنف في وعي وسلوك أمتنا الراقي.