لطفي السنوسي


الشعب صدق وعده ونزل إلى الشارع من جديد، ليثبت قبل كل شيء أنّه هو المسؤول الأوّل عن حماية ثورته من أي محاولة لسرقتها أو إجهادها، فقد خرج في يوم واحد وفي العديد من الجهات التونسية ومن مختلف فئات المجتمع وفعالياته إلى الشوارع في مشهد ذكّرنا إلى حدّ ما بيوم 14 كانون الثاني/يناير والذي اتحّد فيه التونسيون على نفس المطالب، ويأتي هذا التحرك بعدما استفاق التونسيون على خبر إطلاق سراح البعض من رموز النظام السابق ممن استحلّوا ثرواتنا ودماءنا بل وكانوا عونا للظلم والطغيان ومدافعين عنه إلى آخر لحظة.
وقد استكمل المشهد بخروج السيدة العقربي الرئيسة السابقة للمنظمة التونسية للأمهات من البلاد آمنة مطمئنة والتي عرفت لدى كل التونسيين بموالاتها الوثيقة لنظام المخلوع زين العابدين بن علي وزوجته ليلى الطرابلسي، وما يثير الحيرة والتساؤل هو أنّ هذه المظاهرة شارك فيها العديد من الحساسيات السياسية ونقابيون ومحامون وقضاة وجامعيون بعيدا عن أي انتماء فكري او ايديولوجي وبرغم ذلك جوبهت من قبل قوات الأمن بالقنابل المسيلة للدّموع وبشكل مكثف إضافة إلى الاعتداء بالضرب على بعض المتظاهرين مستخدمة الهراوات والركل ممّا أدى إلى فوضى عارمة في الشوارع، ولست أدري كيف يمكن لأي عاقل أن يقبل رواية وزارة الداخلية والتي صرّحت بأن المتظاهرين هم من بدأ برمي قنابل الغاز وقاموا باستفزاز رجال الأمن في الوقت الذي وقع توثيق ما جرى صوتا وصورة من طرف المتظاهرين الذين أدلوا بشهاداتهم في الوسائط الاعلامية والمواقع الاجتماعية.
إن ما دفع الأحرار من أبناء الشعب للخروج إلى الشارع أمر جلل ولا شك، خصوصا وأنّ بلادنا تمر بمرحلة حرجة والتي تتطلب الصبر والحكمة والوعي والثبات من أجل تحقيق أهداف الثورة، وفي مقدّمتها المطالبة باستقلالية القضاء وتطهيره من رموز الفساد والرّشوة والذين تورطوا في محاكمات سياسية جائرة ضد العديد من الناشطين من سياسيين وحقوقيين ونقابيين زمن حكم بن علي، وان كان شعار استقلال القضاء قد رفع منذ الأيام الأولى للثورة إلاّ أن كل المؤشرات لا تدل على أنّ هنالك إرادة سياسية جادة في محاسبة رموز النظام السّابق ممّن أجرموا في حقّ الشّعب فقتلوا وعذّبوا وسلبوا المال العام ونهبوا ثروات البلاد، فالتباطؤ والمماطلة في المحاسبة أصاب الشارع التونسي بالإحباط وبدا وكأنه فقد الأمل في عدالة انتقالية من شأنها أن تقطع مع انتهاكات الماضي وكذا تطبيقها عمليا من أجل بناء مجتمع قوامه المساواة أمام القانون.
وفي ظل كل هذا التوتر الذي ساد المشهد السياسي في تونس نجد أن من أبرز الموضوعات الحيويّة والمستجدّة هو مسألة العدالة الانتقالية في علاقتها بالانتقال الديمقراطي بما يمثلانه من دعامة أساسية لنشر العدل وحماية حقوق الشعب، ومن حيث أن الوضع الحالي مفتوح على كل الاحتمالات فإنه كان لزاما علينا بيان الأحوال التي يمكن في ظلّها تكريس منهج ديمقراطي قويم من شأنه أن يقطع مع منظومة الفساد والاستبداد، ولن يكون ذلك إلا بمصالحة البلد مع نفسه والذي يستوجب بالضرورة وجود وفاق سياسي يمنح هذه العدالة الانتقالية الشرعية التي بموجبها يمكن كشف كل الحقائق ومن ثم فتح ملف المحاسبة وبلورة كل التدابير الاجرائية لتعويض ضحايا انتهاكات حقوق الانسان ومنع كل المتورطين مع النظام السابق من الوصول إلى مناصب في السلطة عبر عملية التطهير.
ولأن النّظام القضائي يعتبر من أهم أسس العدالة الانتقالية فقد أصبح من المتأكد اليوم تكاتف الجهود من أجل ترسيخ كل الضمانات التي يتحقق من خلالها إصلاح المرفق القضائي وتعزيز استقلاليته، وليس القضاة والمحامون وحدهم المسؤولين عن ذلك فالرأي العام وجميع القوى الحية في البلاد لا بد أن تقوم بعملية الدفع للأمام في اتجاه الضغط المتواصل لجعله مبدأٌ دستوريا وحقا أصيلا يرتبط ارتباطا وثيقا بحماية الديمقراطية ولن يكون لنا ذلك إلا إذا وقع ترجمته إلى نصوص تشريعية، وذلك بالرجوع إلى المواثيق الدولية والتي تتضمن معايير دولية لاستقلال القضاء.
و لن أدخل هنا في أركان استقلالية القضاء وشروط نجاحه ولكن ما يمكن أن نسلط عليه الضوء اليوم هو نظرة المواطن للقضاء والتي ظلت على حالها إلى حدّ هذه الساعة، فعدم وجود تمثيلية حقيقية للقضاء تستجيب لمعايير الثقة والنزاهة أعاق القضاء عن أداء دوره الطليعي خصوصا في هذه الفترة الانتقالية الحرجة والتي تراكمت فيه ملفات الفساد واسترجاع الحقوق وتنقيح القوانين، فأصبح القضاء مساهما في افلات المتورطين من فقهاء النظام السابق وزبانيته وداعميه من رؤوس الأموال، وهذا جعل المواطن يعانق الشارع من جديد بعد أن نفض يديه من حكومة متقاعسة وقضاء مريض.
إن ما يحتاجه الشارع اليوم ليس الخطابات العاطفية والشعارات الرنّانة والاحصائيات المحبطة، إنما خطوة من شأنها أن تشفي غليل الكثيرين من أبناء الشعب الذين تضرّروا خلال فترة بن علي وانتهكت حرماتهم الجسدية وسلبت أموالهم وقتل أبناؤهم، خصوصا وأن الكثيرين تابعوا محاكمة الطاغية مبارك على شاشات التلفزيون في الوقت الذي أطلقت فيه محاكمنا وزراء من حكومة بن علي وسمحت لآخرين بالخروج من تونس بطريقة تستفز مشاعر التونسيين، إن العدالة الانتقالية لا يمكن أن تتحقق بانتخابات وصراعات حزبية على كراسي المجلس التأسيسي إذ لا بدّ من محاسبة كل من تلطخت أيديهم وألسنتهم وأقلامهم إبان نظام حكم بن علي، والأهم من ذلك في نظري هو تطهير سلك القضاء من أولئك الذين جعلوا من ولائهم لبن علي أجلّ قداسة من ولائهم لبيت القضاء.
ومن هنا نفهم مدى مشروعية مطلب انتخاب مجلس أعلى للقضاء انتقالي يتولى تسيير أمور القضاء ذلك أن المجلس في صيغته القديمة والذي مثله في العهد البائد كمثل حصان طروادة في خدمة السلطة التنفيذية يجعل الحديث عن استقلالية القضاء لا معنى له، فالمهمّة الموكولة للمجلس اليوم هي النظر في القضايا التي لا تحتمل التأجيل والمتعلقة أساسا بالقضاء العدلي والمالي والاداري، ولن يكون ذلك إلاّ بإسقاط نظام الوصاية على القضاء والقضاة المستند إلى وزارة العدل على أسس توافقية والتي تتطلب ولا شك اعدادا ماديا وبشريا وتشريعيا، إنها عملية مجتمعية تخص القاضي والمتقاضي على حد السواء وترتبط بالقيم والمؤسسات وهي الضمانة الأساسية في إنجاح مسار الثورة والدّعامة التي يفترض أن تقي البناء الديمقراطي من الانهيار من خلال فرض سيادة القانون وإعطاء بعد أقوى للمؤسسات.