الياس الديري

ليس ربيعاً عاديّاً هذا quot;الربيع العربيquot; الذي يغزو البراري والصحارى، ويروي رمالها وأرضها الجدباء بدماء زكية أضرمت نار الحياة والتمرّد في هذه الجغرافيا الخاملة منذ دهور.
وليس إعصاراً عاديّاً يعبر بعض ولايات مترفة بالثراء والرفاهية في شرق أميركا أو شمالها. هذا الاعصار العربي الهادر، والذي يقتلع جذور الطغاة وجذوعهم وأصولهم المتمدّدة في المجتمعات العربيّة، والملتفة شرورها حول رقاب الشعوب العربيّة وحرياتها.
إنما هو حدثُ العصر العربي الحديث، ومسيرة الألف ميل العربيّة.
بل انه الحدَث العربي الكبير منذ صلاح الدين الايوبي، وإن تكن غماره ونزالاته وساحاته داخل العالم العربي وفي ساحاته وشوارعه، وضد حكام فاقوا الاستعمار والانتداب والاحتلال الأجنبي بظلمهم وجورهم وإرهابهم، وقمعهم لشعوبهم، وبتدميرهم مستقبل بلدانهم والأجيال العربيّة التي توارثت الحرمان والقهر والفقر أباً عن جدّ، وحاكماً عن أبٍ قادته المصادفة الظالمة إلى السلطة.
ومن غير أن تبالي شرعيّة دولية، أو تتأثّر منظمة إنسانيّة، أو ينهض في هذه المجتمعات البائسة ثائر يكتب بدمه الاحتجاج الذي يفجّر براكين الغضب.
إلى أن منّت الحياة على تونس الخضراء، المكبّلة بالإرهاب حتى وهي نائمة، بطائر الفينيق المجسّد بفتى مثل وجه الصباح يدعى محمد البوعزيزي، قال في لحظة أعادت مناخ الأسطورة إلى قرطاجة أليسار الصوريّة، لا ظلم بعد اليوم. لا فقر. لا جوع. لا خنوع. لا ذلّ.
وأشعل النار في جسده. فتحوّل الجسد المنهك بالبؤس والتنكيل شعلة اخترقت حواجز الخوف، وبوابات السجون، وأبواب قصور الظلم والاستبداد، وأضاءت في الوقت نفسه قلوب التونسيّين ودروبهم وأصواتهم وحناجرهم، حتى تجاوبت معها الحريّة، وانحنى امام عظمتها الحاكم المتغطرس وفرّ فرار المرتكبين.
ضجّ العالم، وضجّت الهتافات. وضجّت الصدور بالفرح وهي تواكب شعلة البوعزيزي تتنقّل من بلاد أسيرة إلى بلاد جعلها الحاكم بأمره سجناً كبيراً، إلى بلاد انفجر صبرها وغضبها في وجه الظالمين الذين ولدتهم أمهاتهم بلا قلوب ولا مشاعر ولا بصيرة.
حتى الناس الذين في أبعد المعمورة لم يكتموا إعجابهم، ودهشتهم، وفرحهم بهذه اليقظة، وهذه الثورة، وهذه الشعوب التي فاجأت نفسها وحكامها ومجتمعاتها قبل الآخرين.
حتى صحافة الغرب والشرق القصي، وحتى الشعوب الاسكندينافية، وحتى الذين كانوا على ودّ وتواطؤ مع معظم هؤلاء الطغاة المتدحرجين تباعاً، لم يتمالكوا أن يسكتوا طويلاً ولم يختشوا أن يعلنوا انضمامهم إلى ثورة منتظرة منذ ما قبل الحربين العالميتين، مؤيّدين هذه الجموع التي تهجم على الموت غير عابئة، وغير متردّدة، وغير متراجعة إلا مع موكب التغيير والحرية والعدالة والديموقراطية.
لن يتوقّف الإعصار. ولن ينتهي فصل الربيع العربي ولو مرّ صيف وتلاه خريف وشتاء. ولن يستريح الثوّار قبل تحرير بلدانهم وشعوبهم من عبودية القهر.