رضوان السيد

ما قرأت تصريحا أطرف وأكثر مأساوية من بيان وزارة الخارجية اللبنانية عن المبادرة العربية لحل الأزمة في سوريا بين النظام هناك وشعبها الثائر عليه. فقد حضر وزير الخارجية اللبناني بنفسه اجتماع مجلس الجامعة العربية يوم السبت في 28 أغسطس (آب) 2011. وهو الاجتماع الذي ناقش المبادرة، وأصدر بيانا بشأنها، وأخبر الجمهور العربي أن الأمين العام للجامعة سيتوجه إلى دمشق لعرض المبادرة على المسؤولين السوريين. وتعبر المبادرة عن القلق العميق لأحداث العنف وسفك الدم في البلاد، وتدعو النظام إلى مغادرة الحل الأمني الذي فشل تاركا آلاف القتلى، وعشرات آلاف المعتقلين والمشردين بين الداخل السوري ومخيمات النفي في تركيا والأردن ولبنان. كما تدعوه إلى الإصلاحات الاقتصادية والسياسية بما يتلاءم وحق الشعب السوري في المشاركة وإنجاز التحول الديمقراطي المطلوب. وعندما عاد وزير الخارجية اللبناني إلى بيروت، كانت عدة تطورات قد حدثت: رفض النظام السوري المبادرة، وأنجز حملات قمع وقتل واعتقال في صفوف المصلين بالمساجد في ليلة القدر، وعلى رأسها جامع الرفاعي بكفرسوسة، أحد أحياء دمشق، كما كان الأتراك والإيرانيون والروس (وهم جميعا من أصدقاء النظام في سوريا)، قد عبروا عن استنكارهم لتصرفات النظام، ووجهوا تحذيرات إليه. والظاهر أن القمع الذي نال السوريين في ليلة القدر، نال بعضه وزير خارجية حكومة حزب الله بلبنان الذي ما جرؤ على التصدي للإجماع في مجلس الجامعة، فأصدر بيانا جاء فيه أن نص المبادرة ما نوقش في اجتماع الجامعة، ولذلك ما تسنى للوزير الهمام التصدي له بالإنكار، مع أن المندوب السوري في الاجتماع كان قد تصدى له!

لقد مضت على الثورة الشعبية في سوريا ستة أشهر، وطُرحت خلالها عشرات المبادرات للحل على المستويات الدولية والإقليمية، وعلى مستوى المعارضة أو المعارضات السورية في الخارج؛ وبخاصة ذاك الفريق أو أولئك الفرقاء المتجولون في تركيا بين أنطاليا وإسطنبول. وبقيت التصريحات والبيانات العربية على مستوى الدول خجولة أو مترددة، باستثناء بيان الملك عبد الله بن عبد العزيز، الداعي إلى وقف العنف، وصَون مصالح الشعب السوري ووحدته. وكان بين الإشارات الأسوأ قبل شهرين زيارة الأمين العام الجديد للجامعة العربية إلى دمشق، ودعمه للرئيس الأسد، دونما كلمة عما يجري في الشارع السوري وعليه من قتل وقمع وملاحقة. ولهذه الأسباب كلها، كانت مبادرة الجامعة العربية - وإن تأخرت - قوية وصادمة للنظام وأنصاره، ومنتصرة لقضية الشعب السوري في الحرية والديمقراطية. إنما الأهم من ذلك كله أنها هي الخطوة الأولى التي تعلن الجامعة العربية من خلالها دخولها إلى زمن الثورات التغييرية العربية. فقد اتخذت قرارات بشأن دعم التحول الديمقراطي في ليبيا، وتبنت قضية السوريين الثائرين وحقهم في الحياة الحرة والكريمة والخالية من القمع والقتل. إنها تعريب للأزمة إذا صح التعبير، وإعلان عن أن الجامعة تريد أن تلعب الدور المرجو منها في الزمن الجديد، حفاظا على الانتماء والتماسك، وصونا لسوريا من مخاطر الحلول الإقليمية والدولية.

منذ بداية الثوران في سوريا أعلنت إيران عن وقوفها إلى جانب النظام هناك، وقدمت له الدعم بشتى السبل، معتبرة أن الصورة هي مؤامرة على نظام الممانعة والمقاومة. وأضاف الأمين العام لحزب الله في لبنان إلى ذلك القول مرارا إنها مؤامرة لن يستفيد منها غير إسرائيل والولايات المتحدة.

أما الأوروبيون والأميركيون فقد انصرفوا لتطبيق سياسات العقوبات المتدرجة ضد رجالات النظام بدءا بالرئيس الأسد وأسرته. وقد حاولوا ولا يزالون يحاولون الوصول إلى قرار ثان في مجلس الأمن بحق النظام السوري تحت الفصل السابع. وهو القرار الذي لا تزال تمانع فيه روسيا والصين والهند وجنوب أفريقيا، ومع ازدياد مطالبها من النظام بالتوقف عن القمع وتسريع الإصلاحات.

وتردد الأتراك لبعض الوقت، ثم تصاعدت لهجتهم ضد تصرفات النظام في مواجهة الثائرين، وفتحوا مخيمات على الحدود للاجئين إليهم من القمع، والسماح للمعارضات السورية المتنوعة بعقد جلسات واجتماعات لها بتركيا. وفي الوقت نفسه تكثيف التواصل مع النظام السوري للغرضين: وقف القمع، وإجراء الإصلاحات، ورغم قول عبد الله غل رئيس الجمهورية التركية أخيرا - وتحت وطأة ما جرى على المساجد والمصلين في ليلة القدر - إن النظام ميؤوس من صلاحه تقريبا؛ فإن الأتراك يعتقدون أنهم نجحوا في استمالة الإيرانيين إلى جانبهم لزيادة الضغوط على الرئيس الأسد من أجل وقف القمع، والدخول في الحل السياسي.

والواقع أن المراوحة التركية، بل ومراوحة بعض العرب والدوليين تجاه الثورة السورية والنظام لها سببان: التخوف من التردي في نزاع داخلي مسلح لا مخرج منه إذا طال القمع والتظاهر معا، أو التخوف من تدخل دولي مخرب شأن ما جرى في العراق وليبيا!

وسط هذا المشهد المأساوي، يبدو تصرف قيادات النظام غريبا وعجيبا بالفعل. فهؤلاء لا يزالون يرون أن الثورة يمكن إخمادها بالقمع والقتل والملاحقة والاعتقال. لكنه ليس قمعا عشوائيا وحسب؛ بل هو قمع يتقصد إهانة الجمهور والمساس بمشاعره ورموزه الدينية. وهو سلوك دائم بدءا من إرغام المعتقلين على الصراخ تحت التعذيب بأنه لا إله إلا بشار أو ماهر، وانتهاء بالإغارة على المساجد والمصلين قتلا وقمعا وقصفا وإقفالا وهدما، وفي شهر رمضان على الخصوص! لقد بدأ هؤلاء بذلك في الأسبوع الأول للثورة بدرعا بما فعلوه في الجامع العُمَري هناك، ووصلوا أخيرا إلى غزو جامع الرفاعي بدمشق في ليلة القدر. وبين هذا وذاك تكرر المشهد في عشرات المساجد بسائر أنحاء سوريا، ومن البوكمال إلى حمص وحماه. وهذا التصرف فضلا عن حمقه، يشير إلى أمرين اثنين؛ أولا: أن أرباب النظام لا يزالون يقرأون في كتاب قديم يعود إلى السبعينات والثمانينات من القرن الماضي عندما كان نظام الراحل حافظ الأسد يشتبك مع الإخوان المسلمين، ويعتبر أن ضرب المساجد بحماه وحمص وإدلب وحلب يرعب الثائرين، ويشهد لعلمانية النظام ويساريته في عيون الاتحاد السوفياتي والولايات المتحدة. أما الأمر الثاني فهو أن النظام يتجاهل، بل يجهل، طبيعة الثورة السورية الحالية. فهي ثورة مدنية بامتياز، ولا علاقة للتنسيقيات القائمة بالفعل بالحزبيات الإسلامية أو الأصوليات التي بنى النظام البعثي سمعته على مكافحتها قبل ثلاثة عقود. وهو بذلك ينجز للشبان المدنيين وبسرعة ما لم يستطيعوا إنجازه في خضم هذه الحشود الهادرة بإسقاط النظام: إشعار المتدينين والمحافظين والذين ما شاركوا في المظاهرات، أن النظام لا ينتمي إليهم على الإطلاق، لأنه يكره ليس فقط مطالبة أبنائهم بالحرية (شأن كل نظام استبدادي)، بل هو يكره أيضا دينهم ويتعمد إهانة مشاعرهم العميقة في الإيمان والكرامة الأخلاقية والإنسانية.

لقد جاءت مبادرة الجامعة العربية تجاه الشعب السوري إذن معلنة عن أمرين اثنين: أن الجامعة دخلت في الزمن العربي الجديد، وأن قضية حريات الشعب السوري وكرامته هي قضية عربية بامتياز، بلا أقلمة ولا تدويل. هل يتجاوب النظام السوري أو يستفيد؟ لا أحسب أن ذلك سيحدث، فهو نظام من أنظمة الماضي تحركه دوافعه وأحقاده وأوهامه، إنما المهم أن الشعب السوري لن يرفع بعد اليوم شعار الخيبة من الأمة في صيغة: صمتكم يقتلنا. وسواء استقبل الأسد الأمين العام للجامعة أم لم يفعل، فهذا يوم له ما بعده!