سعد بن طفلة العجمي

اشتهر عبدالله بن المقفع (ت 142) بكتاب كليلة ودمنة، الذي ترجمه من الفارسية إلى العربية وكتب مقدمته وفيه كثير من الحِكم والمواعظ، كما ألف كتاباً آخر لم يحظ بنفس شهرة quot;كليلة ودمنةquot;، وهو كتاب quot;الأدب الصغير والكبيرquot; حوى كثيراً حول علاقة السلطان بالرعية. ولكن ربما قلة هم من يعرفون أن اسم المقفع مشتق من تورم اليدين بسبب الضرب عليهما، فيقال مقفع اليدين أي متورمتين بسبب ضربهما، وهو ما جرى ليدي المقفع على يد الحجاج بن يوسف الثقفي الذي قيل إنه ضرب يدي والد ابن المقفع بالحديد حتى تورمتا.

عرف ابن المقفع بأخلاقه وأدبه وطيبته وكرمه، فمن أقواله: quot;ابذل لأصدقائك دمك ومالكquot;، وقال عن نفسه: quot;إذا رأيت حسناً أتيته، وإذا رأيت قبحاً أبيتهquot;.


وربما قلة أيضاً هم من يعرفون كيف مات عبدالله بن المقفع ميتة شنيعة على يد سفيان بن معاوية والي البصرة بأمر من خليفة المسلمين أبي جعفر المنصور. فقد أمر سفيان بتقطيع يديه وشيّهما في تنور قطعة قطعة، ثم أمر بقطع رجليه قطعة قطعة ورميهما في التنور أمامه حتى مات، وقيل إنه أجبر على أكل لحم يديه. مات بن المقفع بسبب عقد كتبه بناء على طلب المنصور نفسه كاتفاق لإنهاء خلاف المنصور مع عمه عبدالله بن علي، ومن ضمن ما كتبه ابن المقفع كأحد بنود الاتفاق إذا ما أخل به المنصور الذي عرف بغدره بكل من أعطاه الأمان، أن quot;تطلق نساؤه ويتحرر عبيده ويصبح الناس في حل من بيعته كخليفة لهمquot;. وقد أغاظ هذا البند المنصور الذي أنهى حياة ابن المقفع وهو ابن ست وثلاثين سنة فقط لا غير.
في فبراير عام 1980، عاد سليم اللوزي -رئيس تحرير quot;الحوادثquot; اللبنانية- من منفاه الاختياري بلندن في زيارة قصيرة لدفن والدته، وكان يحسب أن للموت حرمة وأن يد الغدر لن تطاله على رغم تحذيرات أصدقاء ومقربين منه، وكانت رسائل التحذير دموية أيضاً، فقد اغتالوا شقيقه مصطفى قبل اغتياله بستة أشهر. مصطفى لا ذنب له سوى أنه شقيق سليم، وسليم صحفي يستخدم القلم ضد أعدائه. بعد دفن والدته ببيروت، اختطف اللوزي في طريقه إلى المطار من حاجز ردع للجيش السوري، وعثر على جثته بعد تسعة أيام من اختطافه، وبها رصاصة في الرأس ويده اليمنى مسلوخة ومذابة أصابعه الخمسة في الأسيد وفي بطنه غرست أقلام وفقئت عيناه وتكسرت أضلاعه وتعرض لتعذيب وحشي قبل رصاصة الرحمة. وكانت الرسالة واضحة: من يعارض -ولو كتابة- الوجود السوري والاحتلال الأخوي للبنان، سيلقى مصير اللوزي.

قبل أيام، وفي الألفية الثالثة، وتحديداً في أغسطس من عام 2011، اختطف رسام الكاريكاتير السوري الشهير علي فرزات بدمشق، وتعرض للضرب والتعذيب والإهانة ولقفع اليدين وتكسيرهما بسبب رسوماته التي لم تعجب quot;الشبيحةquot; والنظام، لعل فرزات قد توهم أن علاقته الشخصية بشيخ quot;الشبيحةquot; وزعيمهم ستوفر له حصانة من تعرضهم له، وقد أخطأ فرزات وفاز quot;الشبيحةquot; بضربه وتعذيبه. فرزات ريشة، ومع وصول العهد الحالي السوري هبت نسائم من الوعود بالانفتاح والإصلاح، وتعشم كثيرون خيراً بزعامة شابة طبية واعية، فأطلق فرزات مجلته الساخرة quot;الدومريquot; وبتشجيع من الرئيس شخصيّاً، ثم أغلقت الصحيفة عام 2004، إذ يبدو أن رسوماتها تجاوزت الخطوط الحمر في التعبير، ولم يفهم الرسالة، أو رفض أن يتفهم الرسالة، فاستمرت ريشته تعاند الريح، المثل quot;ريشة في مهب الريحquot;، ولكن ريشة فرزات استعصت على الريح، فكان لابد من قفع يدي صاحبها، وهو ما جرى لعلي فرزات بن المقفع، ولكن في القرن الحادي والعشرين، وليس في القرن العاشر!