عبدالحميد الأنصاري
ثقافة المكابرة نوع من السلوك المراوغ دفاعاً عن الذات وتجاهلاً للحقائق، وبلغ من رسوخها أنه لو أجري استطلاع حول مسؤولية laquo;القاعدةraquo; لبرأت الأغلبية بن لادن! فهل كانوا ينتظرون أن يأتيهم وصحبه ويطرق بابهم ليعترف لهم؟ وهل كانوا يصدقونه؟ كيف وقد فعل من قبل؟! ولكن على قلوب أقفالها.
في مثل هذا الشهر قبل عشر سنوات غزت القاعدة أميركا، وفجرت برجي التجارة العالمية، وذهب 3 آلاف بريءhellip; تغيرت أميركا وتغير العالم وتغيرت المنطقة، إذ شهدت حراكاً واسعاً أثمر: تمكين المرأة من مناصب قيادية كانت حكراً على الرجال، وهذا الربيع العربي الممتد والمتفاعل، لكن شيئاً واحداً بقي في دنيا العرب لم يتغير، إنه ldquo;العقليةrdquo; التي آمنت بأن 11/9 مؤامرة أميركية صهيونية لاجتياح العالم الإسلامي.
إن قطاعا كبيرا من الجماهير ونخبا فكرية ودينية مازالت معتقدة أن الموساد أو المخابرات الأميركية هم من دبروا الحادثة لإلصاق التهمة بالمسلمين كذريعة للانقضاض على العالم الإسلامي، والتحكم بمقدراته ومحاربة الإسلام في عقر داره!
ولا أنسى عصر ذلك اليوم الحزين وrdquo;الجزيرةrdquo; في بث حي من الموقع يطل علينا خبير إعلامي مؤكداً أنه من فعلة اليمين المتطرف أسوة بحادثة ldquo;أوكلاهوماrdquo; وبحجة أن شبابنا لا يملكون القدرة على تنفيذها، والتقطها صلاح منتصر في عموده بالأهرام 13/9 مؤكداً براءة العرب، وفي خطبة الجمعة وعبر الفضائية وعلى العالم وقف رمز إسلامي شهير بالوسطية والاعتدال مؤكداً لدرجة اليقين أن أميركا تعلم ldquo;علم اليقينrdquo; براءة بن لادن وصحبه ldquo;لكنها تحشد وبدافع صليبي حاقد للقضاء على المسلمينrdquo;! لماذا؟ لأن بن لادن بايع أمير المؤمنين الملا عمر على عدم الاعتداء على أي دولة، وهو وصحبه ملتزمون بعهدهم شرعاً!!
وظهر داعية كان مهندساً فتحول إلى نجم فضائي لامع في الإعجاز العلمي للقرآن، مؤكداً أنه من فعلة الموساد لأنهم أبلغوا بني جلدتهم، فتغيبوا عن العمل صبيحة ذلك اليوم المأساوي، ولأنه ضبط يهود يصورون في موقع الحدث شامتين، ولأن إسرائيل هي المتهم الأول عند العرب دائماً فقد راجت الحجة كما راجت تصريحات المرشد السابق للإخوان بأن الموساد وراء تفجيرات طابا، وشرم الشيخ، والعقبة، والقاهرة، والعراق، ومثلها تصريحات رئيس جمعية الإصلاح الكويتية السابق بأن الموساد وراء تفجيرات مترو أنفاق لندن! لماذا؟ لأنه لا يفعلها مسلم!!
لكن مشايخنا ليسوا وحدهم في الميدان، فبعض رموزنا القومية واليسارية مثلهم في تبرئة ldquo;القاعدةrdquo;، إذ لا يزال منظر الناصرية الأكبر متمسكاً إلى يومنا، ولم يتراجع بأن اليوغسلافيين الصرب هم من ضربوا أميركا انتقاماً من ضربها لهم! وعندما جاء الفرنسي النكرة ميسان بكتابه ldquo;الخديعة المرعبةrdquo; وقال: ldquo;أميركا ضربت نفسها بنفسها، طار القوم فرحاً، واحتفوا به وترجموا كتابه وأغدقوا عليه فباع لنا الوهم وصدقناه فأثرى ثم اختفى!
ومع أن أصوليي لندن كانوا يحتفلون سنوياً بغزوة ldquo;منهاتنrdquo; ويمجدون ldquo;العظماء الـ19Prime; عبر ملصقات في شوارع لندن قبل طرد زعيمهم، مما يعد اعترافاً صريحاً إلا أنه لا هذه الاعترافات ولا ظهور الأدلة والبيانات، ولا مرور السنوات، ولا كثرة التحقيقات كانت قادرة على زحزحة إيمان هؤلاء ببراءة ldquo;القاعدةrdquo;، واتهام الموساد! ترى ما هذه القوى الخرافية لهواجس التآمر على عقولنا؟ وكيف ترسخت هذه الأوهام في نفوسنا؟ إنها ldquo;ثقافة المكابرة والإنكارrdquo; المترسخة في الأرض العربية منذ الفتنة الكبرى التي قصمت ظهر المسلمين وفرقتهم، وشئناً أن نحمّل وزرها اليهودي ابن سبأ، تبرئة للذات، وشيطنة للآخر الذي لا يأتي منه خيرٌ أبداً، فما من مصيبة في الساحة إلا وهذا الشيطان الأبدي وراءها. فالموساد وراء اغتيال ناصر وعرفات والحريري، وسعاد حسني ماتت بمؤامرة ولم تنتحر، وديانا قتلت حين أرادت الزواج بمسلم، وغزو الكويت مؤامرة من السفيرة ldquo;غلاسبيrdquo; لاستدراج صدام وضربه، وكل التفجيرات الإرهابية في المنطقة وراءها أميركا أو الموساد، والزرقاوي شخصية وهمية اخترعها الأميركان لتشويه سمعة المجاهدين، وتطوير التعليم في المنطقة إملاءات أميركية، ومنع المصالحة الفلسطينية ضغط أميركي، بل حتى زلزال توسونامي مؤامرة أميركية لشل اقتصاد آسيا!
يحار المرء في مواقف هؤلاء، ولا يجد لهم عذراً بعد ظهور البراهين القاطعة بمسؤولية ldquo;القاعدةrdquo;، فهل هم حقاً يؤمنون بما يقولون؟ أم هي المكابرة والعناد؟ أم الاستخفاف بالناس الذين ضللوهم؟ أم أخذتهم العزة بما قالوا فلا يستطيعون للتراجع سبيلا؟ أم على قلوب أقفالها؟!
إنها ثقافة المكابرة والعناد المستحكمة في النفوس والمهيمنة على العقول، وهي التي تدفع المستشارة الإعلامية بثينة شعبان والمتعامين عن حقائق الواقع للقول إن ما يحصل في سورية مؤامرة صهيونية لتقسيم الدول العربية! وهي التي دفعت من قبل جموع المحامين للتهافت والتكالب دفاعاً عن صدام وتجاهل ضحاياه! حتى مرتزقة القذافي اليوم يقولون: إنه يجسد المقاومة ضد الاحتلال!
ثقافة المكابرة نوع من السلوك المراوغ دفاعاً عن الذات وتجاهلاً للحقائق، وبلغ من رسوخها أنه لو أجري استطلاع حول مسؤولية ldquo;القاعدةrdquo; لبرأت الأغلبية بن لادن! فهل كانوا ينتظرون أن يأتيهم وصحبه ويطرق بابهم ليعترف لهم؟ وهل كانوا يصدقونه؟ كيف وقد فعل من قبل؟! ولكن على قلوب أقفالها! مثل هؤلاء في تصلبهم وأنا أقصد جانباً من النخبة لا الجماهير مثل الذين قال الله تعالى فيهم ldquo;لَا يُؤْمِنُونَ* وَلَوْ جَاءَتْهُمْ كُلُّ آيَةٍhellip;rdquo; فهم كما في المثل: ldquo;عنزة ولو طارتrdquo;!
تغييب العقل الفاحص غيب أسئلة مثل: من أين لهم هذا الوثوق المطلق ببراءة ldquo;القاعدةrdquo;، وقد اعترف خالد شيخ محمد تفصيلياً بأن فكرة ضرب البرجين بالطائرات التجارية فكرته أقنع بها بن لادن؟ ولماذا تضرب أميركا أفقر دولة إسلامية؟ ولماذا لم تضرب السعودية وقد جاء منها 15 انتحارياً؟ وما حاجتها إلى ضرب نفسها بحثاً عن ذريعة وعندها العشرات من الذرائع من أفعال ldquo;القاعدةrdquo; العدوانية ضد مصالحا من قبل، إضافة إلى قرار مجلس الأمن القاضي بتسليم بن لادن وحصار طالبان؟ وهل أميركا بحاجة إلى ذرائع أصلاً؟!
ثقافة المكابرة من الآفات الموروثة، تشرّبها الأفراد منذ طفولتهم تلقائياً وتبرمجوا عليها، وهي ثقافة مهيمنة على العقلية الجمعية للعرب، وبغض النظر عن انتماءاتهم السياسية والأيديولوجية تراها في فزعة القوم ضد أي نقض خارجي حول الاتجار بالبشر أو انتهاك حقوق الإنسان في المنطقة العربية، وهي بعض رواسب ثقافة عرب الجاهلية، وهم أمة مكابرة لم يشهد التاريخ لهم مثيلاً كما قال القرآن الكريم ldquo;وَجَحَدُوا بِهَا وَاسْتَيْقَنَتْهَا أَنْفُسُهُمْ ظُلْمًا وَعُلُوًّاrdquo;، ولطالما عانى رسولنا الكريم- عليه الصلاة والسلام- من تصلبهم وتعنتهم، حتى قالوا: ldquo;أَوْ تُسْقِطَ السَّمَاءَ كَمَا زَعَمْتَ عَلَيْنَا كِسَفًا أَوْ تَأْتِيَ بِاللَّهِ وَالْمَلَائِكَةِ قَبِيلًا* أَوْ يَكُونَ لَكَ بَيْتٌ مِنْ زُخْرُفٍ أَوْ تَرْقَى فِي السَّمَاءِ وَلَنْ نُؤْمِنَ لِرُقِيِّكَ حَتَّى تُنَزِّلَ عَلَيْنَا كِتَابًا نَقْرَؤُهُ قُلْ سُبْحَانَ رَبِّي هَلْ كُنْتُ إِلَّا بَشَرًا رَسُولًاrdquo;.
وبعد: هل يملك هؤلاء المكابرون بعد عقد من السنين على كارثة 11/9 شجاعة التراجع عن الخطأ، والاعتراف والاعتذار للناس الذين ضللوهم، وزيفوا وعيهم؟ أم يستمرون في عنادهم وتصلبهم ومكابرتهم؟
ثقافة الاعتراف بالخطأ، فضيلة أخلاقية عليا من فضائل ديننا، نفتقدها في مجتمعاتنا وفي ثقافتنا العملية، وعلينا تفعيلها بتفكيك قيود المكابرة، وتجاوز ثقافة الإنكار سعياً إلى وضع أفضل وغد أسعد.
- آخر تحديث :
التعليقات