أمجد عرار

مبادرة تنعش القلب تلك التي صدرت عن قوى وشباب تونسيين تجاوزوا استحقاقات همومهم الداخلية في فترة انتقالية عصيبة وانتشلوا فلسطين من هوة التغييب التي يحاول البعض إلقاءها بها . تسامى هؤلاء التونسيون على آلامهم وضبابية واقعهم وتنبّهوا لقضية العرب الأولى وهي، لمن ينسى، فلسطين . احتشدوا أمام المجلس التأسيسي وشعارهم يقول ldquo;تجريم التطبيع مسؤولية الجميعrdquo; . استبقوا إعداد الدستور ليطالبوا بتضمينه بنداً يجرّم التطبيع مع الكيان الصهيوني، وخاطبت المجلس بهتاف عالٍ يقول ldquo;يا تأسيس فيق فيق . . التطبيع ما بيليقrdquo; .

لم تكن المبادرة وليدة حس قومي فحسب بل رداً سريعاً على أصوات كانت وهي مقصيّة تتاجر بالقضية الفلسطينية وتتسلّق فوق العداء الظاهري للكيان، وعندما أصبحت نافذة زاودت على من كانت تجرّمهم وراحت تتغزّل بأعداء الأمة وتقدّم لهم رسائل التطبيع بالمجان، حتى إنها مهّدت الطريق لخطوات تطبيعية عملية من خلال القول إنه لا شيء في الدستور التونسي يمنع إقامة علاقات مع ldquo;إسرائيلrdquo; .

كان لا بد أن يتنبّه التونسيون لمخاطر هذا التوجّه وهم خبروا، رغم بعد بلادهم جغرافياً عن منطقة الصراع، عدوانية ldquo;إسرائيلrdquo; عندما دمّرت طائراتها مقر منظمة التحرير الفلسطينية عام 1986 في منطقة حمامات الشط، وقتلت عشرات من كوادر المنظمة، ثم بعثت مجموعات من موسادها عام 1988 مرة أخرى لتقتل القائد أبو جهاد في منزله في ضاحية سيدي بوسعيد، ولتعمد بعد ذلك بعامين أيضاً لاغتيال القادة الفلسطينيين أبو إياد وأبو الهول وفخري العمري في العاصمة تونس .

نعم إنها مسؤولية جماعية يجب أن تبقى حيّة في الأذهان والشوارع وفي كل المحافل أيا كانت الظروف والتحديات، ولا ينبغي الخجل والتردد في وضع ألف علامة استفهام حول كل مظهر تبدو فيه قضايا الصراع القومي غائبة عن الساحة، لأنه لا عذر لمن يدرك الفكرة ويتخلى عنها . ولا يكفي أن يردّد بعض المسؤولين جملاً من نوع أن ldquo;القضية الفلسطينية مقدّسةrdquo; ما لم تترافق مع رصيد عملي، وإن لزم الأمر دستوري، يجرّم التطبيع مع الكيان، ليس في تونس وحدها إنما في كل مكان يستطيع صوتنا أن يصل . ينبغي أن يصار إلى عزل وفضح أولئك المنادين بفصل المسائل الاجتماعية والأهداف المطلبية عن القضايا الوطنية والقومية وفي القلب منها قضية الصراع العربي الصهيوني . وعلى هؤلاء أن يفهموا أن الديمقراطية والحريات العامة وسواها من قضايا التنمية والأمن والاستقرار، وهي مطلوبة في كل وقت، لا يمكن أن تقف على أقدامها مع بقاء الكيان الصهيوني متربّصاً بالشعب العربي أرضاً ومصيراً، وطامعاً بموارده، وطامحاً لتحويل ملايين العرب إلى سوّاح على شواطئ فلسطين المحتلة ونزلاء في فنادقه وجواسيس لاستخباراته .

آن الأوان أن نفهم أن حرية المواطن مهمة لكن حرية الوطن أهم، فما قيمة وطن يتحرك فيه مواطنوه بحرية إذا كان الوطن نفسه مسلوب القرار والإرادة؟ وهل تتجلى هذه الحرية في تمكّن المواطن العربي من التمشّي على شواطئ ldquo;تل أبيبrdquo; ولا يستطيع الوصول إلى القدس للصلاة في المسجد الأقصى وكنيسة القيامة؟

وللمتعمّدين حرف البوصلة لا بد من القول إن الكيان الصهيوني ليس خطراً على فلسطين وحدها، ولم ينشئه الغرب الإمبريالي لهذه الغاية فحسب، إنما ليكون اسفيناً دائماً يفسّخ الوطن العربي ويصنع الفتنة بين أبنائه . لذلك لا بد من التذكّر أن التطبيع جريمة .