حلمي شعراوي

لا يبدو أن الأمر قد استقر بعد في الخرطوم أو العالم العربي بشأن quot;استقلالquot; جنوب السودان في يوليو 2011، وأنquot;السودان quot;، أي الشمال السوداني بات جزءاً من العالم العربي بالأساس منتمياً لأفريقيا مثله مثل مصر وغيرها في الشمال الأفريقي العربي بينما أصبح الجنوب قطراً أفريقيا تماماً ومستقلًا . ذلك ما يبدو للعين المجردة من متابعة التعليقات الإعلامية المثيرة على زيارة quot;سلفاكيرquot; رئيس دولة جنوب السودان إلى إسرائيل في أواخر ديسمبر 2011 ليوم واحد اعتبرتها الصحف الأميركية نفسها quot;زيارة عاديةquot; رغم التصريحات quot;الودودة quot; المتبادلة خلالها. بل إنه حين تحدث مسؤولو الدولة الجديدة عن بحث الزائر في مصير ثلاثة آلاف جنوبي في إسرائيل مضوا إليها quot;خلسة quot; عبر الحدود المصرية، فإنهم ذكًروا مسؤولي الخرطوم أنهم سبق أن أتاحوا لأكثر من خمسة عشر ألفاً من الفلاشا الإثيوبيين المرور ودياً عبر أراضيهم إلى إسرائيل في ظل نظام نميري ومبارك أوائل الثمانينات من القرن الماضي، وفهمنا أن ذلك في إطار تبادلات المصالح لاتفاق أديس أبابا، وتصالحات كامب ديفيد بالقاهرة. ولا أريد هنا إلا أن ألفت النظر إلى مسؤولية الخرطوم عن التفهم الأعمق لمعنى التحقق السياسي والدبلوماسي لدولة جنوب السودان quot;المستقلة quot;، التي يجب أن تحترم بدورها المصالح quot;السودانيةquot;، لأن المشاكل المتداخلة بين الطرفين ما زالت كثيرة وعميقة، ليس أكبرها الحدود، لكنها مشاكل بشر كثُر وقضايا إقليمية في الشمال وثروات مترابطة، وأوضاع دولية تلف بعنق الخرطوم أحياناً.

لست هنا أيضاً بصدد التسليم بتوسع النفوذ الإسرائيلي في quot;جنوب السودانquot;، فهذا أمر نواجهه في مصر والخليج والشمال الأفريقي، بما يضعنا نحن المثقفين الوطنيين في حرج شديد عندما نتحدث إلى أصدقائنا في أنحاء القارة عن علاقة إسرائيل بـquot;العولمة الإمبريالية الدوليةquot;، فيسارعون بربط ذلك بمدى استقلالنا نحن عن ذلك في الوطن العربي!


إذن فأول ما يقتضي النظر إليه هو ضرورة اعتراف الجميعquot; باستقلالquot; جنوب السودان، وليس مجرد النظر إليه باعتباره إقليماً quot;منفصلاًquot; نعمل على تحجيمه أو تحديد حركته ضمن التسليم المؤقت بانفصاله. وهناك دروس في ذلك خاصة في قمة لحظات التوحد القومي حين سلم عبد الناصر بانفصال سوريا، وهي إقليمه الشمالي بعد أقل من شهر من quot;الانفصالquot; بالقوة المسلحة، كما أن دروس اليمن وأوروبا الشرقية والبلقان وغيرها ليست بعيدة عن ناظرينا ومعظمها سعد بها الإعلام في مواقع عربية ذات مصالح معروفة. وسوف يجعلنا ذلك بالضرورة نبحث بعمق أفضل عن رعاية المصالح، وتنسيق الموقف العربي نفسه، لاحتواء واقع quot; الاستقلال الجنوبيquot; جديد قد يمهد لأنواع من الفيدرالية أو الكونفيدرالية، كما كان يبشر البعض لفترة وقبل مضاعفة التوتر على هذا النحو الذي يجري الآن.
إننا لا نعرف الآن بأي أموال تَنفُذُ إسرائيل إلى منطقة حيوية لنا مثل جنوب السودان. ويمكنني من واقع عديد من الشواهد القول إنها تدير أموالاً عربية بشكل غير مباشر، وعبر آلياتها الفنية، التقنية والإدارية، ونفوذها في صندوق النقد والبنك الدولي، بل وبالاتصال المباشر أحياناً بدوائر عربية، عبر علاقات هنا وهنالك، لمشروعات كبيرة الآن في الزراعة وتنظيم الموارد المائية في جنوب السودان وإثيوبيا معاً. ذلك أن معرفتي التاريخية تقول منذ كنا نحاصرهم في الفترة الناصرية بمصر، أن إسرائيل لم تملك مشروعاً كبيراً في أية لحظة، بل امتلكت لفترة نفوذاً عبر الدول الكبرى، أو عبر علاقات شخصية بأمن النظم القائمة (مثل موبوتو)، أو عبر معرفة تقنية عالية في المجال النووي (جنوب أفريقيا قبل التحول)، أو بمشورات فنية عالية لمشروعات كبرى قائمة في إثيوبيا وشرق أفريقيا وغيرها. ومن هنا تصبح إسرائيل أكثر خطورة ممن يدفعون المليارات، وأكثر استيعاباً لمليارات الآخرين في مجال خبرتها المعروفة في الزراعة وتقنياتها، وهي لن تحتوي بالطبع مليارات الهند أو الصين أو ماليزيا ذا النفوذ في مناطقنا الحيوية، ولكنها ستحتوي بسهولة أموال إخوة لنا، يعزفون عن إنقاذ مصر أو تونس، لتصب في مناطق التوتر العربي الأفريقي مثل جنوب السودان وإثيوبيا. وبالمناسبة حدث ذلك من قبل لأكثر من ثلاثين ملياراً من الدولارات العربية في مجال التعاون العربي الأفريقي في الثمانينات.

هنا لا أستطيع التوجه بالعتاب إلى حكومة quot;سلفاكيرquot; بهذه الطريقة التي تابعناها في الإعلام العربي على الأقل، لأني أعاتب الذين يغفلون عن ختم معاونتهم العربية بروح عربية حقيقية تجعل دبلوماسية جنوب السودان نفسها في حرج من مبالغات مثل التي قدمت في تل أبيب، ونقول ذلك الآن، ونحن نتابع ما يحدث تجاه حركات تحرير دارفور وزعامات دارفور ...ونخشى أن تكرر الدول العربية أخطاءها، حيث سبق الحديث بنفس الطريقة عن صلة لأبناء دارفور بإسرائيل، بينما كان الزعماء في فنادق عربية كبرى، وبقدر ما كانوا في فنادق أفريقية أيضاً. وقد لا نعرف للآن حدود الموقف العربي من مشكلة دارفور ، فقد أربكها سلوك القذافي طويلًا من جهة ، كما أربكها صمت مصر عنها في عهد مبارك من جهة أخرى، وأربكتها أكثر سلوكيات النظام السوداني والمعارضة السودانية نفسها حتى دخلت حركة وحكومة جنوب السودان على الخط بقوة. فإلى أي حد انتبه المسؤولون العرب الحادبون على علاقتنا بجنوب السودان ودارفور معاً لهذه المواقف؟ ألم يكن الأمر يستدعي اقتراباً دقيقاً من جنوب السودان حتى لا يدخل بقوته على خط دارفور فيحدث للسودان والعرب مخاطر جمة، لا تؤججها فقط هجومات الإعلام العربي المستمرة، وإنما يؤججها أيضاً الوجود الإسرائيلي وتغافل الممولين العرب؟ وهل يتسق ذلك مع احتفالات الخرطوم بمقتل quot;خليل إبراهيمquot; قائد quot;العدل والمساواة quot; بالشكل الذي حدث، والتبشير غير الحقيقي بانتهاء الصراع بمقتله؟ وهل صحيح أن ثمة يد في ذلك لمن سبق أن عاونوه؟ أم أنها قوة ردع جديدة لدى الخرطوم لضرب اقتراب غرب السودان من جنوبه، خلال الحرب على الإقليمين بدل التفاهم مع quot;متمردى الغربquot; ، وquot;مستقلي الجنوبquot; وذلك على أسس سياسية ديموقراطية ؟ بشكل يضمن للخرطوم استقراراً تنشده ؟ أم ترى لا تقدر الخرطوم معنى الدعوات التحالفية التي سيدعمها مقتل خليل إبراهيم بين مختلف قوى المعارضة السودانية لتدخل بالسودان عالم الربيع العربي المتمرد على النظم القائمة ؟

إن لهجة الأصوات الصادرة عن قيادات دارفور تبدو متفهمة لعمق ما حدث ومتحفزة للتحدي وفي يدها سلاح quot;الخطاب الخليليquot; في الأشهر الأخيرة عن quot;الحل القوميquot; للسودان يقترب به من حل السودان الجديد سابقاً عند قرنق، ويبدو هذا هو الرد على ما يرد من إشارات يرسلها مؤخراً مقتل quot;خليلquot; عن موقف الأوروبيين والخليجيين والليبيين على السواء. وهي إشارات أقوى من مجرد تصريحات الخرطوم عن دقة quot;التصويبquot;، أو فاعلية تنظيم السلطة الإقليمية لدارفور! .

لعل السلطات الذكية في جنوب السودان والخرطوم نفسها أن تتأمل هذه الإشارات بعيداً عن مجرد توقع انفصال دارفور ، على نمط انفصال الجنوب، وبعيداً عن مكايدة العرب بإسرائيل، لأنه يبدو أن في الدوائر الغربية خططاً أوسع للسيطرة بطرق أخرى على quot;السودان الكبيرquot;، ولنلاحظ سرعات التحرك في مجلس الأمن وقوات الأمم المتحدة في مناطق الجنوب. وهو ما أتصور أن تتأمله تحالفات ديموقراطية حقيقية أكبر في الخرطوم وجوبا على السواء. ومثل هذه التحركات الجديدة قد لا ينفع أمامها تزايد التهديدات بالعمل المسلح في دارفور أو مناطق في جنوب السودان، حيث بتنا نقرأ أيضاً طروحات أخرى لمفكرين سودانيين جادين عن توسيع دائرة العمل السياسي الديمقراطي لصالح جماهير أوسع في الإقليمين المستقلين.