مأمون فندي

انسحاب الدكتور محمد البرادعي من سباق الرئاسة المصرية، مع الفارق، أشبه بتنحي مبارك عن الحكم في مفاجأته وغموضه، وأدعي أننا لن نعرف الكثير مما يدور في مصر لأن في الأمر غموضا غير مريح. الدكتور البرادعي سجل فيديو يشرح فيه أسباب الخروج من المشهد فيه كلام مبهم عن ربان السفينة الذي أخذها بعيدا وأدار المرحلة بعشوائية دونما تسمية لهذا الربان، وفي هذا الإبهام للفاعل الأساسي الذي جعل البرادعي ينسحب بداية تفسير. ولكن كيف يكون انسحاب البرادعي شبيها بتنحي مبارك؟ وكيف الجمع بين النقيضين.. بين داعية تغيير وديكتاتور؟ وكيف لي أن أضع الاسمين في نفس واحد؟ النقطة تحتاج إلى شيء من الهدوء والتروي من أجل الفهم لا من أجل تسجيل النقاط.

مهم أن نعرف أنه وبعد مرور عام على الثورة المصرية وحتى هذه اللحظة لا نعرف الكثير عن كيفية تنحي مبارك عن الحكم. صدق بعضنا بسذاجة منقطعة النظير أن الرئيس المصري السابق حسني مبارك تخلى عن الحكم هكذا، دونما ضمانات من أطراف دولية كانت ولا تزال لاعبا رئيسيا في المشهد السياسي المصري، ودونما ضمانات من القوى المحلية الفاعلة من حملة البندقية الذين وضعهم مكانه في الحكم ولا شرعية لهم سوى أنه نقل السلطة إليهم، ومن القوى الدينية المناوئة له ذات الزخم الاجتماعي. يتحدث المصريون والعالم وكأن مبارك طفل يتيم هزيل قالوا له laquo;امشraquo; فمشى، أو ترك المشهد هكذا وجلس في بيته مع زوجته وأولاده مكتوفي الأيدي في انتظار نقلهم إلى سجن طرة في حالة ولديه جمال وعلاء، أو نقله إلى شرم الشيخ في حالته هو، وجميعهم في انتظار المحاكمة.

الدنيا في تصوري لا تسير هكذا.. فأمور معقدة مثل تنحي رئيس دولة كان يملك كل شيء في مصر، وديكتاتور بامتياز، ثم يتخلى عن سلطاته هكذا، لا تحدث بسهولة. والغموض الشديد ما زال يكتنف المشهد حول ماهية ما حدث، وماهية الصفقة بين مبارك والمجلس العسكري من ناحية، ونوعية الصفقة بين مبارك ممثلا في شخص عمر سليمان وبين laquo;الإخوانraquo;، الفصيل المعارض للرئيس، والذي يعرف نظام مبارك أنه لو تركت الأمور على حالها سيصل هؤلاء إلى الحكم، كل هذا كان معروفا في مفاوضات عمر سليمان مع laquo;الإخوانraquo; قبل تنحي مبارك، ولكن تفاصيل هذه المفاوضات ما زالت سرية حتى الآن، وغائبة عن الشعب المصري، وهي التي تلهم التحركات السياسية كلها، بما فيها الانتخابات أولا ثم الرئاسة بدون دستور، إلى آخر هذا العبث الحادث في بر مصر. ولكن ما علاقة كل هذا بانسحاب الدكتور محمد البرادعي من مشهد الرئاسة؟

كما أسلفت ورغم مرور عام على الثورة، ورغم سلميتها، أي استمرارها دونما عنف كبير على غرار تفخيخ السيارات في العراق، ورغم الاتهامات لم تفجر سيارة واحدة في مصر، رغم كل هذه السلمية، فإن الشفافية تنقص الجميع في المشهد المصري بما فيها عملية انسحاب البرادعي من المشهد الرئاسي. مشهد شديد الغموض في ما يخص التحركات الرئيسية للاعبين الأساسيين. لا نعرف عنه سوى القشور مثل الانتخابات وبعض المظاهر الشكلية لعلاقات القوة، أما أدوات القوة الخشنة الأساسية من أموال العسكر حتى أموال نظام مبارك وعلاقتها بالبندقية، فهي أمر غير مطروح حتى للنقاش.

كان واضحا في لغة البرادعي في الفيديو المسجل أن الرجل تعرض لضغوط لا قبل له بها، ولم يجد لديه من الأدوات للتعامل مع هذه الضغوط سوى التخلي عن الهدف واللجوء إلى الحماية الشعبية بالخروج في العلن لإعلان الانسحاب من باب تأمين النفس، وهذا أمر وارد وتكتيك يصل إليه الجميع في عدم وجود حماية ضامنة للشخص وسلامته. وانسحاب البرادعي ليس الأول في القصة، فكان هناك انسحاب مهم قبله لم يحظ بأي نوع من الاهتمام، وهو انسحاب الفريق مجدي حتاتة رئيس الأركان السابق للجيش. ومجدي حتاتة من باب التذكير كان هو خيار واشنطن كرئيس لمصر في فترة التسعينات، يومها كنت في واشنطن وكان الفريق يزور المدينة، وكان واضحا على من يراهن الأميركيون كخليفة لمبارك، ولما اشتم مبارك الرائحة أقال الرجل من موقعه ووضعه رئيسا للهيئة العربية للتصنيع، كما أقال أبو غزالة من قبل وجعله، لفترة، مساعدا للرئيس ثم شوهه بما فيه الكفاية لدى المجتمع في قضية لوسي أرتين، وشوهه لدى محبيه من رجالات الجيش. وانتهت أسطورة حتاتة وبعدها انتهت أسطورة أبو غزالة.

الشيء نفسه حدث مع البرادعي عند أول إعلان له بأنه سيعود إلى مصر لقيادة التغيير، تم تشويه الرجل وأسرته وكل من يقترب منه، ولكن الرجل استمر بعد الثورة ظنا منه أن النظام الذي جعل منه هدفا للتشويه قد سقط، ولما اكتشف في ما بعد أن النظام قد عاد وبشراسة أكبر في السجن حيث التنكيل وتشويه السمعة آثر الانسحاب، وربما تكون الخطوة التالية ليست كما قال البرادعي الانضمام إلى صفوف المعارضة، بل هي خروج كامل من مصر مرة أخرى، لأن سلامة الرجل وأمنه على المحك، حيث خلق النظام جوا يكتنفه الغموض، لو حدث فيه شيء للبرادعي فستقيد القضية ضد مجهول كما سجلت قضايا سابقة من قبل.

ما زال الصندوق الأسود للنظام القديم في مصر مغلقا، وما انسحاب البرادعي من المشهد إلا مؤشر على مزيد من الضبابية والغموض، وفي أجواء الغموض هذه يبقى من الواجب على الدكتور البرادعي في لحظة ما وحال ضمانه إلى الآن، أن يقول لنا ما حدث، وظني أن الرجل شجاع بما فيه الكفاية ليقول ذلك يوما ما، أما قصة تنحي مبارك فستبقى لغزا، رغم ما يدعيه الجميع من أن الديمقراطية والشفافية على الأبواب في مصر بعد انعقاد أول جلسة لبرلمان الثورة.