محمد الرميحي
طارت صواريخ حماس إلى المدن الإسرائيلية، فأحدثت نشوة عربية عارمة لدى رجل الشارع العربي. لأول مرة صواريخ تحاول إصابة أهداف في أماكن لم تصرخ فيها صفارات الإنذار لفترة طويلة في إسرائيل، فلم تعد إسرائيل طويلة اليد، حرة في قتل العرب كما تشتهي وكيف تشتهي. مع طيران تلك الصواريخ ارتفعت أسهم الجمهورية الإسلامية الإيرانية، فهي صانعة تلك الصواريخ التي لم يكن لحماس أو أي من مناصريها الوصول إلى تقنياتها أو حتى التفكير في صناعتها، وهذا ما تريده الجمهورية الإسلامية بالضبط؛ الوصول إلى الشارع العربي وكسبه، الذي هو بدوره عاطفي وسريع الانجذاب لأي من يحاول أن يؤدب إسرائيل على أفعالها المشينة.
ولكن ثمة صواريخ أخرى وعتاد إيراني حربي آخر يستخدم في قتل عرب آخرين، في قرى وبلدات ومدن سوريا، لم يتوقف أحد ليفسر أن عتادا إيرانيا يدافع عن بعض العرب، ويقتل عربا آخرين في الوقت نفسه، ولا يصيب العدو بأضرار كبيرة، ولكنها السياسة من جهة، وقصور الذاكرة من جهة أخرى.
قليلون سوف يرون أن هناك تناقضا ما بين الفعلين، وأنا أراه منسجما مع بعضه، فما تكسب به تلعب به، كما يقول المثل المعروف.. أي أن إيران تكسب كثيرا عندما تبدو أمام الرأي العام العربي أنها مدافعة عن المستضعفين في فلسطين، وهم بالنسبة للعرب بشر ضاع مستقبلهم وأصبح لحمهم يعطى للآلة الإسرائيلية الحربية متى ما شاءت دون رادع، ويصبح التعاطف معهم تلقائيا، خصوصا عند تعرضهم لمذبحة، وهم يتعرضون لها كلما قررت إسرائيل أن تفعل.
كما أن قتل السوريين ليس مهما كثيرا، لأنهم يريدون أن يخرجوا من طوق التحالف الذي تدافع عنه إيران بكل قوة. في مكان آخر يقف حزب الله اللبناني المناصر لإيران متفرجا على ما يحدث في غزة، لأن بعض عتاده مدخر لمواجهة عرب آخرين في لبنان، يريدون لوطنهم الانعتاق من التبعية، على الرغم مما يخزنه كما يعلن الحزب من عشرات الآلاف من الصواريخ الجاهزة للانطلاق، أو أنه مستخدم جزئيا للدفاع عن الجار وخوض معركته؟!
إنها مسرحية سريالية بكل ما تعنيه الكلمة من معنى، ولكن مخرجها يقول إن السلاح وضع للمصلحة ويجب استخدامه متى ما كان يراد للمصلحة أن تتحقق، وهي مصلحة إيرانية في الأساس.. بصرف النظر عن الحقائق على الأرض والتي تقول إن ما أصاب إسرائيل من أخطار في الأنفس وفي البنى المادية لا يشكل إلا جزءا يسيرا مما يصيب الشعب السوري، وإن الضحايا في سوريا أكثر بالأرقام أضعافا مضاعفة من الضحايا الذين خلفتهم صواريخ إيران.
السر الكبير أنه لا أحد يعرف من بدأ هذه المعركة الأخيرة. هناك رأي يقول إن من بدأها قوى منسلخة وصغيرة في الجسم الفلسطيني في غزة، وإنه ربما كانت تعمل بأوامر ليس بالضرورة داخلية. إلا أن حماس قد انجرت إلى المعركة، لكونها المسؤولة عن الأمن في القطاع، كما يذهب هذا التحليل إلى القول إن المزايدة التي تقوم بها بعض الجماعات الفلسطينية تجبر حماس على خوض معارك غير مستعدة لها وربما غير راغبة فيها.
من جهة أخرى، فإن توقيت المعركة أيضا فيه إحراج للنظام الجديد في مصر، ويبدو أن من خطط لفتح المعركة أراد أيضا أن يضع مصر بحكمها الجديد أمام خيار صعب؛ إما مناصرة الفلسطينيين على الأرض، وإلا اتهم بالتقاعس كما كان يفعل النظام المباركي في السابق، أي دون أي ردود فعل تذكر. القاهرة اختارت كما يبدو أن تلعب اللعبة بنفس قواعد من حركها، أرسلت رئيس الوزراء لساعات إلى غزة، ومن ثم صب كلاما كثيرا عن المناصرة والدعم والأخوة.. ولكن النتيجة واحدة متماثلة مع السابق، أي محاولة التوسط بين الطرفين المتنازعين، كما كان يفعل مبارك من قبل.
الجامعة العربية هذه المرة كان كلامها أكثر حدة، وتوعد بالويل والثبور، إلا أنه كلام أيضا لا يخرج عن سياق الجمل الساخنة، وكان ذلك متوقعا أيضا.
ما حققته معارك غزة في الأيام الأخيرة عدد من النتائج، هي أولا رفع درجة القبول لدى البعض لـlaquo;التقنية الإيرانية النشيطةraquo;، خاصة بعد أن قدم لها حزب الله قبل أسابيع بإرسال الطائرة من دون طيار التي أسقطت، وإعادة تأهيل الفكرة التي تقول إن إيران لا غيرها هي سند الفلسطينيين الحقيقي، كما حققت إثارة كثير من الغبار على إنجاز الشعب السوري، بعد أن توحدت قواه الحية في اللقاء الأخير في الدوحة، وتقاطرت الدول صغيرها وكبيرها على الاعتراف بها كممثل شرعي وحيد للشعب السوري. ومن نتائج فتح المعركة الغزاوية غير المباشرة رفع أسهم بنيامين نتنياهو في السباق القادم للانتخابات الإسرائيلية. أما كم من المنازل تهدم في غزة، وكم من الأرواح قد أزهقت، فهو لا يشكل إلا عددا في النعوش لا أكثر.
مسكينة هذه القضية التي تخلى عنها بشكل عملي أهلها، كما تاجر ويتاجر بها بعض أبنائها، وهي الآن معروضة في سوق نخاسة يدفع ثمنها بعض صواريخ مصنوعة في إيران في الغالب لا تترك خلفها غير أصواتها المرتفعة! العجيب أنه مجرد ما تحرك الوضع حول غزة ثارت الأصوات الجاهزة تعلن أين أنتم يا عرب؟! وكيف لا تتحركون؟! هي محاولة للمزايدة ينساق وراءها كثيرون، كما ظهرت بعض المظاهرات وهي في حقيقتها تبكي على قضايا داخلية في الغالب في إطار الدعم لفلسطين.
آخر الكلام:
لا يريد السوريون الآن بعد توحد معارضتهم العواطف الجياشة، ولا حتى المعونات الإنسانية، يريدون سلاحا فعالا من أجل تحقيق النصر، يبدو أن فرنسا في طريق الاستجابة، بقي أن يستجيب آخرون أيضا.
التعليقات