سعدون يخلف

يخطئ من يعتقد بأن الجزائر في منأى عن رياح التغيير التي تهبُّ على المنطقة العربية طولا وعرضاً، حيث لم تتوقف عند الجمهوريات التي توصف بـ ' الشعبية ' عادة، بل امتدت إلى الملكيات، فها هي العروش تهتز وفرائص الملوك ترتعد، والجماهير تكسر جدار الخوف، وتنتفض ضد سياسات الإقصاء والتهميش، وترافع لأجل رفع الوصاية عن الشعوب، وتنادي بضرورة تغيير الوضع القائم، ولا أتكلم هنا عن انتفاضة البحرين، لأن ثورة الشعب البحريني قضية عادلة لكنها في يد محام فاشل، لذلك فالقول بأن هذا القطر أو ذلك البلد في منأى عما يحدث في المنطقة مجانب للصواب.
السيد أحمد أويحيى رئيس الوزراء السابق والأمين العام لحزب التجمع الوطني الديمقراطي يرافع لهذا الرأي، فمن مدينة قسنطينة صرح قائلا: 'هناك من كان ينتظر ربيعاً في الجزائر، فأخطأوا' والخطأ حسبه نتيجة أن الجزائر 'لها تاريخها وتجربتها الخاصة'، كما أنه قلل من الاخطار المحدقة بالجزائر، لأن العالم كما يقـول 'يعرف الشعب الجزائري جيدا'، لذلك فأن أي خطوة يقدم عليها تجاه الجزائر وأمنها سيحسب لها ألف حساب.
والسؤال الذي يطرح، هل الجزائر حقاً بعيدة عمّا يحدث في المنطقة؟
إذا سايرنا الطرح الذي عبر عنه السيد أحمد أويحيى بأن الجزائر في منأى عن رياح التغيير التي تهبُّ على المنطقة، فهذا إهانة للشعب الجزائري، ولتاريخه النضالي من أجل الحرية والكرامة.
وإذا كانت الاجابة بـ 'لا' فهذا يحتاج إلى تحليل معمّق، لا يتوقف عند تصريحات السّاسة، بل يمتد إلى تحليل الشخصية الجزائرية، وإلى غور تاريخها القريب منه والبعيد، وسنحلل ذلك في نقاط، وهي:
1- الجزائري لا يرضى بالظلم، ولكنه يصّبر عليه، ويقوى على الجوع، لكنه لا يرضى احتقاره، والحطّ من قيمته، والنيل من كرامته وشرفه، ومسّ ثوابته ومقدساته، وذلك في سبيل أمن البلاد، وسلامة العباد، ويعود ذلك إلى القهر الذي مارسه المستعمر الفرنسي، الذي بقي جاثماً على صدره طيلة 132 عاما، وإلى ما عاشه في عشرية الموت والدمار من رعب وخوف وفقد للأحبة، فالقهر يعلّم الإنسان الصّبر (إلى أن يأتي الفرج والانتصار، أليس الانتصار هو صّبر ساعات؟).
2- لقد نالت معظم الدول العربية استقلالها في النصف الثاني من القرن الماضي فمصر في سنة 1952، والمغرب وتونس عام 1956، وقبل ذلك العراق 1932، ولبنان 1943، وسوريا 1946............، وتأخرت الجزائر حتى عام 1962، بعد ثورة الفاتح من نوفمبر 1954، التي استمرت 7 سنوات، ثورة إن دلت على شيء فإنما تدل على عظمة ثورة .. وعظمة شعب، ولم يقل أحد أنذاك عن هذا التأخر بأن الجزائريين يشكلون استثناء في التحرر من نير الاستعمار، أو أن الجزائريين راضون بقدرهم، وما جلبته لهم الأيام العصيبة من فقر وحرمان وطغيان واستعباد، فالشعب الجزائري بعد نضال طويل وصل إلى نتيجة مفادها بأنه إذا أراد الحياة، والتمتع بنسيم الحرية، واستغلال خيرات بلاده، فلا بد أن يستجيب لنداء القدر، ذلك أن التحرر يمر عبر الثورة، لأن المستعمر لا يفهم إلا لغة السلاح والعنف كما قال 'فرانز فانون'، ويمكن تفسير هذا التأخر أيضا بتلك القاعدة التي تقول بأن الجزائري يؤثر في الآخر، ولا يتأثر به، و لو تأثر فإن نتيجة التأثر ستأتي متأخرة نوعا ما.
3- التغيير هو قانون الله في خلقه، يسري ذلك على الفرد، وعلى الجماعة، والجمود ينافي هذا القانون، وبما أن العالم يتغير، والجزائر جزء من هذا العالم، فإن التغيير سيطالها حتماً، متى ذلك .. وكيف..؟، كل ذلك يتوقف على هذا النظام ومدى حكمته، والحكمة تقتضي السماع إلى صوت الشعب واحترام رأيه وتنظيف الساحة السياسية من والوساخة والانتهازية..، فالجزائريون كانوا ينتظرون الاستحقاق الانتخابي في 10 من مايو الماضي للعبور إلى دولة الحق والعدل والقانون، تكون الهيئات المنتخبة تمثل إرادة الشعب، وتعبر عن أشواقه وأحلامه، وتناضل من أجل التخفيف من همومه ومعاناته، خاصة بعد خطاب الرئيس عبد العزيز بوتفليقة في مدينة سطيف الذي طمأن فيه الجميع بأن موعد التغيير قد حان، وأن الانتخابات ستكون حرة ونزيهة، الفيصل الوحيد هو اختيار الشعب، إلا أن نتائج الانتخابات وما شابها من تزوير ممنهج لصالح حزب الأفلان خيبت الآمال، وبددت الأحلام أن يقود النظام التغيير.
4- كما أن القول بالطرح السابق يقودنا إلى السؤال الجوهري، ألا تتوافر في الجزائر أسباب الانتفاضة من ظلم واستبداد، ومن فقر وحرمان، ومن ضياع للحقوق وقمع للحريات، ومن فساد وتبديد للمال العام؟.
إذا كانت الإجابة بـ' نعم ' فإن السيد أويحيى على حق فيما ذهب إليه فمن ذا الذي ينتفض ضد العدل والرّخاء والرّفاهية.
أما إذا كانت الاجابة بـ 'لا' فأويحيى إذن لا يعبر عن إرادة الشعب، بل يعبر عن إرادة نظام متمسك بالسلطة حتى النخاع.
للأسف في الجزائر كل أسباب الانتفاضة متوافرة، فالفقر في تزايد، وحياة سياسية تتسم بالفساد، ونخب سياسية هشة، وأخبار الفساد والفضائح تطفو إلى السطح، والهوة بين الحاكمين والمحكومين في اتساع متزايد، كما أن الجزائري استقال من الفعل السياسي، ومن يعايش الحملة للانتخابات المحلية هذه الأيام يدرك مدى لامبالاة الشعب بالانتخابات وأخبارها.
ربما يراهن أويحيى على فشل الثورة السورية حتى تتوقف رياح التغيير، ومن يراهن على ذلك فهو واهم وخاسر، لأنه لا سبيل إلى وقف هذا المد الشعبي إلا بمباشرة إصلاحات حقيقية يكون الشعب فيها هوالسيد وصاحب السلطة الحقيقي، إصلاحات تؤدي إلى بناء علاقة جديدة بين الحاكم والمحكوم، حيث تبدأ بالسماع إلى صوت الشعب، واحترام قراره، وتنتهي بتوزيع عادل للثروة، بالإضافة إلى وضع آليات المحاسبة والمراقبة، والعمل بمبدأ التداول على السلطة، كما يجب انتهاج سياسة اقتصادية رشيدة ذات كفاءة في تسيير الموارد الطبيعية والبشرية والمالية، ونجاعة في الإنتاج، كل ذلك ينجّي البلد من انتفاضة داخلية، ويبعد عنها الأخطار الخارجية التي تتربص به من كل جانب.
في الأخير كان الجزائري إلى وقت قريب يريد بناء وطن رائد وقائد في الاقتصاد والصناعة والمعرفة، جزائر 'يابان إفريقيا' كما حلُم بذلك البعض منا في سبعينيات القرن الماضي، أما اليوم فنحن نحاول 'حماية وطن' من الأخطار المحدقة به من كل جانب خاصة من جهة مالي، والخوف من الغد الذي نريد فيه حماية 'وجود الوطن'، وذلك من التفكك والانقسام والتشرذم.