عبد الباري عطوان
انتهت الجولة الاولى من 'الملاكمة بالكلمات' في قاعة مجلس الامن الدولي فجر امس، بين طرفي الأزمة السورية بالتعادل بالنقاط، وان كان المندوب السوري، بشار الجعفري، حظي بما لا يحلم به من اهتمام سياسي واعلامي بسبب استخدامه لمنبر الامم المتحدة لكسر العزلة الدولية والعربية المفروضة على بلاده، فقد حظيت هذه الجولة ببث مباشر من معظم القنوات العربية والعالمية.
ومن المفارقة الغريبة ان المندوب السوري حظي بمعاملة العضو الكامل في المنظمة الدولية الاهم، ومجلس أمنها، بينما نظيره في الجامعة العربية منبوذ، لا يحق له الاقتراب من المناقشات الدائرة بين وزراء خارجية الدول العربية حول الأزمة السورية، ليس خوفا من المتظاهرين فقط، وانما ايضا بسبب تجميد عضوية بلاده في هذه الجامعة التي كانت احد ابرز مؤسسيها.
ربما من السابق لأوانه اصدار احكام مسبقة حاسمة على نتائج هذه المداولات الأولية، خاصة ان تباعد المواقف، بل وحدّتها في بعض الأحيان، قد يقودان الى استمرار انعقاد مجلس الامن، وتواصل المناقشات لعدة ايام قادمة. فهناك مشروعان مطروحان على مائدة البحث، الاول مغربي يطالب بتنحي الرئيس السوري بشار الاسد والتنازل عن صلاحياته لنائبه فاروق الشرع، وتشكيل حكومة وحدة وطنية، اي مشروع خليجي ببرنس مغربي، ومشروع روسي يقبل بمعظم النقاط الواردة في المشروع العربي المغربي باستثناء تنحي الرئيس السوري.
جميع الذين تحدثوا امام المجلس الاممي مساء امس الاول، بمن فيهم السيدة هيلاري كلينتون وزيرة الخارجية الامريكية، اكدوا على استبعاد التدخل العسكري، وضرورة التوصل الى حل سياسي للأزمة في سورية، الأمر الذي سيصيب قطاعا عريضا من الشعب السوري، وبعض فصائل المعارضة في الخارج 'بخيبة امل'، لأن هؤلاء كانوا يطالبون بالتدخل العسكري على غرار ما حدث في ليبيا، وضغطوا من اجل الذهاب الى مجلس الامن الدولي لتدويل الأزمة سعيا لهذا الهدف، لإيمانهم الراسخ بأن هذا هو الطريق الأسرع لتغيير النظام في سورية، ووضع حد لحلوله الأمنية الدموية.
النقطة الاخرى التي يمكن التوقف عندها تتمثل في صلابة الموقف الروسي، حتى الآن على الاقل، في دعم النظام السوري، وحرصه على عدم الوقوع في مصيدة امريكية جديدة، على غرار ما حدث في ليبيا، ولهذا عارض واعلن انه سيعارض اي عقوبات يتم فرضها على سورية، يمكن ان تفسر بعد ذلك على انها ادانة دولية للنظام يمكن ان تستخدم كضوء اخضر للتدخل العسكري، تماما مثلما جرى توظيف فقرة 'حماية المدنيين' بكل وسيلة ممكنة لتدخل حلف الناتو في ليبيا ونجاحه في تدمير كل مصادر قوة النظام العسكرية وقواعد تأييده، مما ادى في نهاية المطاف الى سقوطه وتصفية قيادته جسديا.
' ' '
روسيا لم تكن وحيدة في موقفها هذا، وكانت مدعومة، مثلما شاهدنا في جلسة امس الاول، بكل من الصين والهند وجنوب افريقيا، علاوة على ايران، وهذا يعني ان هناك كتلة تقف ضد الحل العربي تضم دولتين تتمتعان بالعضوية الكاملة في مجلس الامن، وبالتالي حق استخدام 'الفيتو'، علاوة على الهند اكبر قوة اقليمية في آسيا، وجنوب افريقيا زعيمة القارة السوداء.
اي حل سياسي للأزمة السورية لا يمكن ان يتم الا من خلال امرين اساسيين، الاول هو الحوار بين النظام السوري والمعارضة، والثاني توفير مخرج لائق لرأس النظام في نهاية المطاف من خلال عملية سياسية انتخابيةن على غرار ما حدث في اليمن. فمدة رئاسة الرئيس السوري تنتهي في عام 2014، اي بعد عامين، ومن غير المستبعد ان تتمركز المناقشات في الغرف الجانبية لمجلس الامن في الايام المقبلة حول هذه المسألة.
المعارضة السورية، او المجلس الوطني السوري خاصة، اعلنت انها لن تقبل بأي حل لا يتضمن رحيل الرئيس الاسد، بينما يعارض النظام السوري اي مبادرة تطيح برئيسه، وبطريقة مهينة، وهذا ما فعله جميع الرؤساء العرب المخلوعين، مع فارق اساسي وهو ان معظم الثورات العربية كانت شعبية سلمية، مثلما هو حال ثورات تونس ومصر واليمن، بينما دخلت الثورة السورية مرحلة العسكرة بقوة، وامس اعلن الجيش السوري الحر سيطرته على نصف الاراضي السورية، والأمر الآخر ان روسيا او حتى الولايات المتحدة لم تشكل تكتلا لدعم هذه الثورات او معارضتها مثلما هو الحال في الثورة السورية.
المعضلة الاكبر التي تواجه الجامعة العربية ومبادرتها تتمثل في الانقسامات الكبيرة في صفوف المعارضة السورية في الخارج اولا، ثم بين الخارج والداخل، وتكوين جسم واحد يحظى بثقة ودعم معظم اطياف المعارضة، ان لم يكن كلها، للدخول في مفاوضات مع النظام في حال ايجاد صيغة لمعضلة تنحي الرئيس، ثم تشكيل حكومة وحدة وطنية بقيادة زعيم ووزراء معارضين من الداخل والخارج، وما اكثر الباحثين عن الزعامة والتوزير في صفوف اهل الداخل والخارج في سورية، بل في معظم الدول العربية.
الانتفاضة الشعبية السورية المطالبة بالتغيير الديمقراطي اقتربت من دخول عامها الاول، دون ان تصاب بالضعف او الوهن، وهذا يحسب لأبناء سورية المنخرطين فيها، والمطالبين بحقوق مشروعة في العدالة والكرامة بعد اربعين عاما من الاذلال. كما ان النظام ما زال قويا في الوقت نفسه، مدعوما بأجهزة امنية وقوات مسلحة تجلس فوق ترسانة ضخمة من الاسلحة.
' ' '
التغيير في سورية حتمي، والعودة الى الوراء مستحيلة، الامر الذي يتطلب البحث بجدية في الحلول السياسية، لإنقاذ البلاد من هاوية الحرب الاهلية الطائفية، او الانجرار الى مستنقع التقسيم والتفتيت. ومداولات مجلس الامن الحالية، وان طالت، وتباينت فيها المواقف، قد تعطي الفرصة، او صيغة لانقاذ ماء الوجه للجميع، النظام، المعارضة، النظام الرسمي العربي وجامعته، والقوى العالمية المتصارعة فيما بينها، وتتخذ من المسألة السورية احدى الذرائع لتصفية حساباتها مع بعضها البعض.
الشعب السوري خسر حتى الآن اكثر من سبعة آلاف من خيرة ابنائه، وربما يتضاعف هذا الرقم عدة مرات اذا ما استمر عناد النظام والمضي قدما في حلوله الامنية، او اذا استمرت المعارضة في تشرذمها ومواقف بعض اجنحتها المتشددة.
ختاما نقول بان النظام السوري يخطئ كثيرا اذا اعتقد ان الشعب سيتعب ويتوقف عن المطالبة بحقوقه المشروعة في التغيير، ويخطئ اكثر اذا اعتقد انه يمكن ان يعتمد على قوى خارجية مثل روسيا، وليس على الشعب السوري، للبقاء في الحكم.
مرة اخرى نقول ان سورية بحاجة الى الحكمة والعقل، بل والكثير منه، قبل ان يعض الجميع اصابعهم ندما.
- آخر تحديث :
التعليقات