رشيد الخيّون
بين أكثر مِن ثلاثين مؤتمراً للقمة العربية -دشنت بالقاهرة 1964- اثنان عُقدا ببغداد. الأول في نوفمبر 1978، وكانت قضيته زيارة السَّادات (اغتيل 1981) إلى تل أبيب. وحيا الجواهري (ت 1997) يومها المؤتمرين بقصيدة مطلعها وختامها: quot;إلى المجدِ مستقبلٌ يُصنع/ ببغدادَ مِن حُسنها أروعُquot; (الدِّيوان).
أرسلت القِمة المذكورة وفداً إلى القاهرة لثني السَّادات عمَّا يدبره مع إسرائيل، فرد هاجياً الجميع في خطاب مشهور. وكانت المفاجأة أنه علّق على أزمة بعض الخضار والحبوب بالعراق آنذاك، قائلاً: quot;أُمال راشد يزرع أيهquot;! كنا حينها منتدبين لتعليم الكبار القراءة والكتابة، وراشد وزينب اسمان يردان في قراءة محو الأمية، التي دشنت آنذاك بالعراق: quot;راشد يزرع، زينب تحصدquot;.
أما المؤتمر الثَّاني للقمة العربية ببغداد فعُقد في 28 مايو 1990، قُبيل اجتياح الكويت بشهرين. تصدر حينها وفد اليمن علي عبد الله صالح وعلي سالم البيض كرئيسين، فالوحدة بين صنعاء وعدن أُعلنت قبل أسبوع. وعلى الهواء، طلب القذافي (قُتل 2011) التمثل بهذين الشَّابين، حسب عبارته، لإعلان وحدة عربية فورية.
يرد التساؤل لماذا تأخر عقد مؤتمر للقمة بالعراق كلَّ هذه الفترة، وهو أحد أبرز المؤسسين للجامعة العربية 1945، ومنذ 1963 يسير بخطوات نحو الوحدة مع الجمهورية العربية المتحدة؟ ولماذا لم يزر عبدالنَّاصر (ت 1970) العِراق على الإطلاق؟! بعد مساهمته في التحريض لإسقاط النظام الملكي (1921-1958)، ثم مساهمته في الانقلاب على أول جمهورية (1958-1963)، ووصول قوات رمزية مِن الشَّرطة المصرية إلى بغداد كتهيئة للوحدة المزعومة، وأخذت مصر تتحكم بالسِّياسة العراقية، مثل دورها في خلافة عبد الرَّحمن عارف (ت 2007) لشقيقه عبد السَّلام (قتل 1966).
كان هذا حديثاً متداولاً، وعلى وجه الخصوص بعد زيارة السَّادات لبغداد (1974)، فمما قيل: كان عبد النَّاصر يخشى الاغتيال، وإن الكثير مِن العراقيين لا يحبونه لشدة عداوته لعبد الكريم وتسخير الإعلام المصري ضد العراق آنذاك!
حدثني الشَّيخ نعمان السَّامرائي، عميد quot;الإخوان المسلمينquot; العراقيين آنذاك: إنه في مقابلته لعبد الكريم قاسم (قتل 1963) ذكر له الأخير: كم يهاجمه عبد النَّاصر ولم يتفوه بكلمة ضده! ومما قاله: quot;كنا في تلك المقابلة (ندوس في بطنه) ولم يغضب، ولو فعلناها مع عبد النَّاصر لملأ منا السُّجونquot;.
على أمل أن تلتئم القمة العربية ببغداد (28 مارس)، وهو ثالث مؤتمر تستضيفه بغداد، ويغيب عنه: القذافي ومبارك، وربَّما ملأ مقعد الأخير أحد سجنائه مِن quot;الإخوانquot; أو السَّلفيين. وستأخذ بن علي الهموم وهو يرى سجينه المرزوقي يحل محله. ويتحسر صالح مع أنه ما زال يعيش قريباً مِن قصر الرئاسة. ولا يُعلم هل سيسعف الوقت الأسد ويحضرها أم لا! فكم تريك الأيام عجائباً!
لكن المفقود، والقِمة تُعقد ببغداد، هو صدام حسين (أُعدم 2006)، الذي تولى رئاسة وفد العراق ببغداد بعد أن صعد البكر (ت 1982) إلى منصة رئاسة قمة 1978، وكان نائبه. رأيناه يقفز إلى الكرسي، فتخيلناه هو الرَّئيس قولاً وفعلاً، فما هي إلا شهور ويُزاح البكر، وتفرط مفاوضات الوحدة مع سوريا، وتتحول القمم العربية إلى مشاجرات بين صدام والأسد (ت 1999). وتمنع الحرب العراقية الإيرانية (1980-1988) عقد مؤتمر دول عدم الانحياز، الذي جهزت له بغداد العمائر والمنائر.
بشر كاتب فلسطيني، مِن الذين اعتادوا على ضيافات بغداد لمتابعة تأليف كتاب عن حياة النَّائب ثم الرَّئيس، بفشل القمة، وبسلسلة تفجيرات ستستقبل وفود القِمة، وأن صراعاً سيكون بين الطالباني والمالكي على رئاسة المؤتمر واستقبال رؤساء الوفود! وأن التناقض قائم بين تصريحات رئيس الوزراء ووزير الخارجية، حول التقارب العربي مع العِراق.
أقول: لو قالها غيره لقلنا تحليلاً وقراءة للواقع وتنبيهاً مِن الفشل، لا حرصاً على الفشل لما في الدَّواخل مِن ظنون سُود. فلا يُقيم فشل أو نجاح قمة بغداد بهذه السَّذاجة، إنما الأرجح أن النَّجاح والفشل يتعلق بالوضع العربي الجاري!
ما يُراد مِن مؤتمر القِمة العربي هو التركيز على الصِّلات العراقية العربية، لكن الحوادث الدَّائرة قد تأخذه بعيداً عن المرتجى. فالمحيط العربي ابتعد، وساهم في شدة الانفعال داخل العراق. فإذا كان العذر بأن السِّياسة العراقية تدور في الفلك الإيراني فهذا ليس عذراً، ولابد مِن تقدير طول الحدود بين العِراق وإيران، وليس مِن مصلحة العراق، في قوته أو ضعفه، أن يستعدي دولة، صغرت أو كبرت.
وفي سياق ذلك يطرح السُّؤال، عندما يجري الحديث مع مثقفين وسياسيين عرب، عن مصير عروبة العِراق، هل ابتلعتها الفارسية؟! ومرد هذا التَّساؤل هو الإعلام المنحاز، ومبالغات خصوم الوضع الحالي مِن العِراقيين، الذين يحاولون بكلِّ وسيلة تسميم الأجواء بين العِراق والمحيط العربي.
يُطرح هذا التَّساؤل وكأن عشائر العراق ومثقفيه وسياسييه تخلوا عن لسانهم العربي، وعن أرومتهم، وكم في الظَّن مِن الإثم! الصحيح أن الشِّعار القومي العروبي ترك العِراق متشظياً، وتجاوز على بقية العراقيين مِن غير العرب وعرب لم ينساقوا به، فهناك فرق بين العربي والمتخشب العروبي، لأن عروبة الأخير جهنم على الآخرين.
الشَّاهد، كتب الملا مصطفى البارزاني (ت 1979) رسالة إلى المرجع الشِّيعي السَّيد محسن الحكيم (ت 1970) بإن الحكومة ببغداد، في عهد عبد السَّلام عارف، أعلنت دستوراً ورفعت شعاراً عروبيين، فما شأننا نحن الكُرد (أمالي السَّيد طالب الرِّفاعي، مدارك 2012)! فلا أرى أن يُطلب مِن العِراق رفع شعار عروبي وهو المختلط.
كذلك لا يجب النَّظر إلى قمة بغداد على أنها نجاح لشخصية أو جماعة، إنما هي خطوة مهمة في تصفية الأجواء مع العِراق، وباقتراب العرب يقترب العراق، وحينها سيقل القلق على عروبة عربه، والوهم هو ترجيح المذهب على القومية، لكن لو تصفحت ديوان الشِّعر النَّجفي لضقت مِن غزارة المفاخرة بالعرب والعروبة.
وأكتفي بما قاله الخطيب محمد علي اليعقوبي (ت 1965): quot;هاجت لنا ذِكرى طرابـ/لس وبَرقة والجبل/وعهودُ أَندلس وتلـ/ك عهودها لم تندمل/ حيث العروبة قوضت/ منها وسؤددها أضمحلquot; (الموسوي، الشَّيخ اليعقوبي دراسة نقدية). أقول: لا خشية على عروبة عرب العِراق إذا خلت النَّظرة إليه مِن هاجس طائفي.
التعليقات