عبدالعزيز السماري
قطعت جماعة الإخوان المسلمينrdquo; في سوريا ألف خطوة في الاتجاه الصحيح عندما أصدرت وثيقة أسمتها ldquo;عهد وميثاقrdquo;، بينت فيها رؤيتها لمستقبل سوريا في مرحلة ما بعد الأسد، وتعهدت بالالتزام بقيام دولة مدنية تعددية وديمقراطية، مع المساواة بين جميع المواطنين حتى في فرص الوصول إلى أعلى المناصب، مع احترام حقوق الإنسان والحريات، وفي بيانها الأخير قفزة تاريخية في تقريب مقاصد السياسة الشرعية بالمفاهيم المدنية التي تلتزم بتحقيق العدل، وتأمين الحريات، وتضمن حقوق الإنسان في الوطن.
كنت أنتظر أن يشيد المثقفون العرب والذين قدم بعضهم جهداً غير عادي من أجل الوصول إلى صيغة مدنية تتوافق مع مفاهيم الحداثة الإنسانية ولا تتعارض مع مقاصد الشرع، لكن يبدو أن الثقة بين القوى السياسية في المجتمعات العربية لم تصل بعد إلى مستوى يسمح لها بالاحتفال، فالتطور العربي الحالي يمر في انقلابات على مختلف الأصعدة، وسيكون ميثاق سوريا أحد هذه التطورات في العقل السياسي العربي، لكن ربما ينتظر الاحتفال النخبوي طور التطبيق، ولا يمكن بأية حال إغفال أهمية الدور التركي في تطوير العمل السياسي في المجتمعات العربية المجاورة، وإن كنت أنتظر أيضاً أن تقوم دول مجلس التعاون بتقديم المثال النموذجي لبقية الدول العربية في هذه المرحلة الحساسة جداً في تاريخ العرب.
لم يعد هناك مكان لشعار أن الإسلام أو القومية هما الحل، والذي تم اختزاله خلال العقود الماضية في مفاهيم غير صالحة لمستقبل الأوطان، في محاولة لإعطاء رجال الدين سلطة أعلى من الشعب، والسبب أن الدين الإسلامي في مضمونه يرفض الكهنوت، وذلك لوضوح تعليماته وأصوله في الكتاب المحكم، ومهما حاولت بعض الفرق المتطرفة أن تختزل مرجعية الأمة في فئة فأنها تخسر في ظل سماحة الدين الإسلامي الذي جاهد طوال تاريخه في محاربة الأيقونات والأصنام والعصمة، فالأمر أو الحكم تُرك شورى بين الناس في أن ايختاروا طريقة الحكم المثلى لهم، ولم يترك الأمر محصوراً لفتاوى رجال الدين أو الفقهاء، وما يحدث في إيران يعد حراكا خارج التاريخ، إذ لا يمكن أن تٌختزل مصالح وطن في رؤى دينية متطرفة.
في هذه المناسبة لابد من الإشارة إلى دستور المدينة أو صحيفة المدينةlrm;، والذي تمت كتابته فور هجرة النبي -صلى الله عليه وسلم- إلى المدينة المنورة، وهو يٌعد أول دستور مدني في التاريخ، واعتبره التاريخ مفخرة من مفاخر الحضارة الإسلامية، ومَعلَمًا من معالم مجدها السياسي والإنساني، وكانت الصحيفة تهدف إلى تنظيم علاقة الحقوق والواجبات بين جميع طوائف وجماعات المدينة، وعلى رأسها المهاجرون و الأنصار والفصائل اليهودية وغيرهم، وفي حالة الهجوم على المدينة يتحد من خلاله المسلمون و اليهود وجميع الفصائل للعدوان الخارجي، ويعتبر ذلك أول تعريف لمفهوم الوطن ومبادئ الحقوق والواجبات، ومثال ذلك (وَإِنّ يَهُودَ بَنِي عَوْفٍ أُمّةٌ مَعَ الْمُؤْمِنِينَ، لِلْيَهُودِ دِينُهُمْ وَلِلْمُسْلِمَيْنِ دِينُهُمْ مَوَالِيهِمْ وَأَنْفُسُهُمْ إلّا مَنْ ظَلَمَ وَأَثِمَ)، فالعلاقة كانت مبنية على احترام المواثيق والعهود وليست على الدين.
السياسة تنظيم لعلاقات الناس وضمان لحقوقهم ولا تعني امتياز فئة دون أخرى، فالإخوان المسلمون أو السلفيون وغيرهم ليسوا أمناء على الناس، فالدستور يجب أن يضمن حقوق الفرد تحت رعاية الدولة، وأن ينص على إعطاء الأفراد حريتهم العقلية على شرط أن لا يُخالفوا القانون، وأن يلتزم الإنسان بمصالح الوطن في ظل مشاركة الجميع.
ويُظهر أن مصر تواجه أمراً عسيراً في مرحلة تأسيس الدستور الجديد، والذي يجب أن لا يتأثر بالأطروحات الطائفية والفئوية، وأن تكون المواطنة حرية اختيار وحقوقا واجبات، وأن يكون مفهوم تطبيق الشريعة ليس شكلياً تُنفذ من خلاله بعض الحدود، ولكن قانون شامل يتوافق مع المبادئ والمقاصد الشرعية، ومع ما توصل إليه الفكر الإنساني من تطورات في دولة الوطن الحديث.
يستغل بعض المتزمتين مشاعر الخوف على هوية الأمة من فوبيا التغريب، وفي ذلك هلع غير مبرر، فالحفاظ على هوية الأمة يأتي من خلال صهر الثقافة بمختلف مصادرها في قالب واحد وهو اللغة، والتي يتجاوز مفهومها لغة التخاطب إلى أن تكون بمثابة الوعاء الذي يختصم ويتناغم ويختلف ويبدع من خلاله المواطنون، ولو راقبنا سيرة دول مثل: فرنسا وبريطانيا وأسبانيا وكوريا الجنوبية واليابان لأدركنا أنها حافظت على هويتها من خلال تقوية ثقافتها المحلية بالترجمة وصهر المصطلحات الجديدة في قالب ثقافي محلي، لكنني أحياناً أتفاجأ عندما لا أجد في أدبيات بعض الإسلاميين مفهوم الهوية وعلاقته باللغة، فقد اختاروا الشكليات لأن تكون هوية الدرجة الأولى في المجتمع، وأن تكون اجتهادات وفتاوى الفقهاء بمثابة الدستور الشفوي للأفراد غير المصنفين.
التعليقات