أحمد يوسف أحمد


كما توقعت في مقالة منشورة على هذه الصفحة بتاريخ 28 فبراير من هذا العام، أي قبل شهر من انعقاد قمة بغداد، فإن القمة قد عقدت، ووصلت إلى بر الأمان، ولكن التمثيل فيها كان متدنيّاً. عقدت القمة إذن بحضور تسعة من الزعماء العرب بالإضافة إلى مضيفهم العراقي، وهي أقل نسبة حضور للزعماء العرب منذ بدأ تقليد انعقاد قمم عربية في أنشاص بالقاهرة عام 1946 وحتى الآن، ويلاحظ أن أكثر من ثلثي الزعماء الذين حضروا القمة ينتمون -مع الاحترام والتوقير اللازمين لأية دولة عربية- إما إلى دول غير فاعلة في النظام العربي، أو دول صاحبة مشاكل عويصة تتصور أنها من الممكن أن تجد لها حلاً في القمة، أو لدول تجمع بين السمتين معاً، وفي المقابل غاب زعماء دول عربية مهمة إما لاعتبارات أمنية أو سياسية، ومع ذلك ظهر بعد انتهاء القمة من يقول إنها كانت quot;تاريخيةquot;، أو شكلت quot;منعطفاًquot; في تاريخ القمم العربية، وأن التمثيل فيها كان جيداً جداً.

ويبدو أننا بحاجة ماسة إلى معايير موضوعية أو quot;تعريفات إجرائيةquot; تحدد لنا متى نستطيع أن نصف حدثاً بأنه quot;تاريخيquot; أو يشكل quot;منعطفاًquot; في مسار معين، ومتى يكون التمثيل في اجتماع ما رفيعاً أو متدنيّاً. ويذكرنا هذا بتعبير أن المبادرة العربية لتسوية الصراع العربي- الإسرائيلي (التي دشنت في قمة بيروت 2002) لن تبقى على الطاولة طويلاً، إذ بات هذا التعبير يتكرر بانتظام في بيانات القمم العربية وقراراتها منذ سنوات، وكذلك في بيانات اللجنة المكلفة بمتابعة هذه المبادرة، فإذا كانت عدة سنوات يحدث فيها كل يوم تآكل جديد للأراضي الفلسطينية المحتلة بفعل الاستيطان الإسرائيلي المتصاعد فمتى يجيء هذا التوقيت، وكيف تجري حساباته؟
قد يكون إصدار أحكام موضوعية على قمة بغداد مبكراً الآن، فالباحث العادي لم يتوصل حتى الآن إلى quot;الكتابquot; الذي يتضمن عادة قرارات القمة، ولكن بيانها الختامي ربما يحمل دلالات مهمة بالنسبة لتقييمها. ركزت القمة جل جهدها على أزمة الثورة السورية الشعبية، فتضمن بيانها الختامي فقرات مطولة وجيدة عن هذه الأزمة أهم ما فيها أنها بعد أن كررت المواقف العربية المعروفة أكدت على رفض التدخل الأجنبي (خشية تكرار النموذج الليبي)، وكذلك تسليح المعارضة، حتى لا تتحول الثورة إلى حرب أهلية (يبدو وكأن طرفيها متكافآن من حيث ممارسة العنف بحق الآخرين) غير أن الأهم من ذلك كله أن القمة لم تستطع التوصل إلى حل حقيقي للأزمة، وبعد الأزمة السورية انتقلت القمة إلى quot;قضية العرب الأولىquot; كما كانت تسمى -أي القضية الفلسطينية- فكررت بصددها مواقف القمم العربية السابقة على نحو شبه حرفي على رغم الإخفاق الكامل للنهج الفلسطيني والعربي المتبع منذ توقيع اتفاق أوسلو 1993، ثم تلت ذلك مجموعة من القضايا الأقل محورية التي يحرص أصحابها عادة على أن تسجل في بيانات القمم العربية إثباتاً للجهود التي قاموا بها من أجل تحقيق مصالح دولهم.

لكن المشكلة على هذا النحو تنجم عن سمات بنيوية في قرارات القمم العربية أخفقت في التخلص منها في العقود الأخيرة وحتى الآن، وأول هذه السمات أن الدول وكذلك المسؤولين عن إعداد قرارات القمم العربية يريدون من هذه القمم أن تكون قراراتها شاملة لكل قضايا العرب من القضية الفلسطينية إلى محو الأمية على سبيل المثال، ويؤدي هذا في تقديري إلى إضاعة وقت يعتد به quot;لمطبخquot; القمة الذي يمكن أن يركز جهوده على نحو أفضل إذا تناول عدداً محدوداً للغاية من القضايا ذات الأولوية الملحة في جدول الأعمال العربي. ولا يعني ذلك أن تحسين نوعية التعليم أو الربط الكهربائي بين البلدان العربية وغير ذلك أمور ذات أهمية ضئيلة، ولكن من الممكن دوماً أن تعقد لهذه القضايا مؤتمرات نوعية تدرسها وتصدر القرارات بشأنها. وينبغي أن نتذكر دوماً أن أنجح القمم هي التي ركزت على قضية واحدة كما في قمة 1964 التي عقدت خصيصاً لمواجهة مخاطر المشروع الإسرائيلي لتحويل مجرى نهر الأردن، وقمة 1967 التي عقدت للبحث في قضية واحدة هي إزالة آثار العدوان الإسرائيلي في تلك السنة (ولم تتجاوز قراراتها بالمناسبة صفحتين)، وقمة 1970 التي دعا إليها عبدالناصر لوقف نزيف الدم بين السلطة الأردنية والمقاومة الفلسطينية، وقمة بغداد 1978 التي ركزت على كيفية الحيلولة دون أن تعقد حكومة مصر معاهدة سلام مع إسرائيل، والاتفاق على العقوبات الفورية التي ستفرض عليها حال توقيعها المعاهدة.

والسمة البنيوية الثانية في قرارات القمم العربية هي لغتها، فهي لغة بعيدة عن quot;الفعلquot;، يبدو الزعماء العرب معها وكأنهم يجلسون على كراسيهم فوق قمة الأرض يوجهون هذا بأن يفعل كذا، ويطالبون ذلك بالامتناع عن كذا... ويحرضون ثالثاً، ويضعون رابعاً أمام مسؤولياته دون أن تكون هناك أية مسؤولية فعل مباشر يتحملها العرب، بما في ذلك القضايا التي تخصهم مباشرة، فهم يدعون على سبيل المثال الدول العربية التي لم تسدد حصتها في توفير شبكة أمان مالي للسلطة الفلسطينية بواقع مئة مليون دولار شهريّاً إلى أن تبادر بذلك، علماً بأن صانعي قرار كهذا من الزعماء يكون معظمهم عادة من بين الدول غير الملتزمة.

يبقى ثالثاً وأخيراً أن المراقب المدقق يستطيع أن يلاحظ أن قرارات القمم العربية منذ سنوات عديدة باتت تتكرر عاماً بعد عام وأحياناً بالألفاظ نفسها، ولاشك أن هذا يمكن أن يكون من قبيل quot;اتساقquot; السياسات العربية عبر الزمن، غير أن من الواضح أنه ليس كذلك، وإنما السبب في التكرار عاماً بعد عام هو عجز هذه القرارات عن تحقيق الهدف منها، وبدلاً من أن نبحث في استراتيجيات وسياسات بديلة نحقق بها أهدافنا فإننا نكرر قراراتنا عاماً بعد عام دون جدوى.

ويبدو أن العراق هو الرابح الأكبر من انعقاد هذه القمة، فقد أثبت أن مؤسسته الأمنية تستطيع أن تؤمن حدثاً كبيراً كهذا على رغم تردي الموقف الداخلي سياسيّاً وأمنيّاً، وعاد إلى إطاره العربي بعد أن كانت عروبة العراق محل جدل بعد الغزو الأميركي، وعلى رغم أن هذا التطور قد لا يسر كل الموجودين داخل العراق فإنه على الأقل يقوي من شوكة العروبيين فيه، وإن كانت الظلال الكثيفة للعلاقات العراقية- الإيرانية تحمل علامات استفهام كبيرة عن حدود العودة العراقية للعرب والعروبة. وكذلك كسب العراق إزالة التوتر بينه وبين الكويت بحضور أميرها المؤتمر من بدايته إلى نهايته، ولاشك أن هذا الموقف صائب من الأمير في مواجهة العراق بالذات الذي لا يعلم أحد على وجه اليقين أين ستحمله سفينة التناقضات التي يستقلها. وكذلك حدث تخفيف ملحوظ للتوتر في العلاقة مع البحرين.

وفي النهاية يعني كل ما سبق من عيوب أن ثمة حاجة ماسة لتطوير الجامعة، وهي مهمة لا أشك لحظة في قدرة الأمين العام على الوفاء بها، ولكن المشكلة ستبدأ بعد ذلك بكل تأكيد عندما تنتقل الكرة إلى ملعب الدول العربية.