عبدالله بن بجاد العتيبي

في السادس من مايو 2012 انطلقت من أبوظبي قناة إخبارية جديدة هي quot;سكاي نيوز عربيةquot; وذلك في محيطٍ عربي تعتبر الفوضى واحداً من أكبر عناوينه، وهي فوضى عارمة دون شكٍ ولكنّها تتحول بالضرورة لتصبح شأناً إعلامياً باعتبارها لحظاتٍ استثنائية ومختلفةٍ تغري بتسليط الضوء الإعلامي عليها وإدارة الجدل حولها.

تدخل هذه القناة الإخبارية المشهد العربي وهو متخم بالقنوات الإخبارية العربية التي يمكن تقسميها لعدة أنواعٍ: الأول، القنوات الإخبارية العربية التي تدار من العالم العربي كـquot;الجزيرةquot; الرائدة إخبارياً ثم quot;العربيةquot; مع استحضار قناة quot;أبوظبيquot; وتغطيتها لغزو العراق 2003 التي فاقت فيها quot;الجزيرةquot; العتيدة آنذاك وquot;العربيةquot; الوليدة حينها. الثاني، القنوات الإخبارية العالمية وأعني بها تلك الموجهة للعالم العربي كـquot;بي. بي. سيquot; البريطانية وquot;الحرةquot; الأميركية وquot;روسيا اليومquot; وquot;فرنسا 24rdquo; ونحوها. الثالث، وهي القنوات الإخبارية الخاصة أو المحلية التي بدأت في التناسل في الفضاء العربي وبخاصةٍ في دول الاحتجاجات العربية مثل تونس ومصر وليبيا ونحوها. الرابع، وهي القنوات الإخبارية الخاصة أو المحلية المدعومة إقليمياً كقناة quot;المنارquot; وقناة quot;العالمquot; الإيرانية ونحوها.

سيكون على هذه القناة الوليدة التماس خطاها بين كثيرٍ من حقول الألغام العالمية والإقليمية والعربية، وسيكون عليها أن ترسم لنفسها شخصيةً مستقلةً ومنافسةً على كافة المستويات الإخبارية والبرامجية، وأن تعي حجم التحدي والتبعة التي سيكون عليها تحمّلها إن من حيث رؤيتها أو أهدافها أو أثرها، ولئن كان من الطبيعي أن تحاول القناة افتراع طريقٍ جديدٍ لها ضمن قنوات أقدم منها، وهو ما يبدو أنها تسعى إليه بنجاح، ولئن كان لها حق المزايدة على بعض الموجود، إلاّ أنها في النهاية يجب أن ترسم شخصياتها المستقلة.

بشكلٍ عامٍ فإن لمستوى الوعي دوراً رئيسياً في خلق رؤيةٍ متماسكةٍ لأي مشروعٍ إعلامي جديد وألا تدخل على ذلك الوعي وتلك الرؤية آراء بعض المسكونين بالحدث اليومي، وإنْ عظمت الأسماء وكبرت السير الذاتية، فالوعي مصنعه مختلف عن مصنع الحدث، لأنه بطبيعته محتاج لكثيرٍ من المعطيات التي لا يتوافر كثير منها لمن يتعبه الركض خلف سرعة الخبر اللحظي.

من الجيّد أن تتكاثر وسائل الإعلام المحترفة والمسؤولة والمهنية لأننا بحاجة ماسة إليها للمنافسة على رفع الجودة وتعزيز المصداقية في زمنٍ تفشّت فيه وسائل التواصل الاجتماعي وباتت تنافس كثيراً من وسائل الإعلام في سرعة تغطية بعض الأخبار ونقلها بكافة وسائل الإعلام الجديد وإن بطريقة خاصةٍ بالتأكيد.

يعتبر الإعلام في التنظير للدولة الحديثة هو السلطة الرابعة، وذلك لما يملكه من قوّة التأثير على الرأي العام وترتيب أولوياته، وهذه القوّة تكسّرت عليها كثير من الموجات والتيارات والأيديولوجيات في تاريخنا الحديث والمعاصر قبل أن تتحوّل لاستخدامها والدخول فيها خضوعاً لشروطها، فمن ذلك ما يتذكره الكثيرون جيداً حول كيف كانت مواقف العديد من التيارات والرموز الدينية رافضةً عقدياً أو فقهياً لكل وسائل الإعلام. ومع مرور الوقت أجبروا جميعاً على الخضوع لسلطة الإعلام، فباتوا يتنافسون في اللهاث خلفه زرافاتٍ ووحداناً.

الأمر نفسه يجري اليوم وإن بصورةٍ مختلفةٍ فمع تزايد انتشار وسائل التواصل الاجتماعي والإعلام الجديد وانخراط الكثير من الناس فيها ظنّ البعض لوهلةٍ أنّها ستقضي على وسائل الإعلام التقليدية، وأنّها تنافسها على مكانتها والحقيقة أنّ هذا ظن خاطئ من عدة أوجه من أهمّها افتقاد هذه الوسائل والمنخرطين فيها احترافية الإعلام ومصداقيته ومهما بلغوا من التأثير فلن يصلوا لمنافسة قنواتٍ ذات ميزانياتٍ ضخمةٍ ومهنيةٍ عاليةٍ، بل العكس هو الصحيح فكثير ممن يشمتون بوسائل الإعلام في مواقع التواصل الاجتماعي لا يكذّبون خبراً حين تشير إليهم هذه الوسائل فيتهافتون عليها تهافت الفراش على النار، ووسائل الإعلام تنتقي الناجح منهم وتستقطبه وتدمجه في هيكلياتها وبرامجها.

ثمة بعض الأخطاء التي تقع فيها بعض وسائل الإعلام ومنها حين تنساق وراء موجات الإعلام الجديد ومواقع التواصل الاجتماعي، خاصةً وهي الأقدر على تلمّس نبض الشارع وتوجهات المجتمع بما تمتلكه من وسائل الرصد المعروفة والمحترفة للرأي العام أو للمتابعة الإعلامية، وتخطئ كذلك حين تخضع ولو قليلاً لتوجهات الإعلام الجديد أو تتأثر بها بينما، هي في الواقع الأقدر على صناعة توجهات الإعلام الجديد عبر العمل الصحفي المحترف والواقعي والمتقن.

كذلك فإنّ بعض وسائل الإعلام تخطئ كثيراً حين تنساق وراء حماسات الشباب في مواقع التواصل الاجتماعي بما تكتنزه من قلة الثقافة والخبرة ما ربما دفع بعضها إلى التقليل من شأن الثقافة والمثقفين فقط لمجاراة بعض رموز الإعلام الجديد غير المعروفين والذين، وإنْ أحسن بعضهم نشر الضجيج فإنهم عاجزون عن صنع ثقافة أو خلق وعيٍ.

على وسائل الإعلام أن تسأل نفسها عمّا تريد؟ وهل يجب أن تقود الجماهير الافتراضية أم تنقاد لها؟ أم أنّ ثمة طريقاً ثالثاً بين هذا وذاك؟ وأحسب أنّ من يعي قيمته وقوته ودوره سيتجه لقيادة الجماهير لا الإنقياد لها، أما من يبحث عن الفوائد اللحظية الوهمية، فسينقاد للجماهير الغوغائية ويصنع خطامه بيديه، أما من يبحث عن طريقٍ ثالثٍ وهو الأصح والأبقى من وجهة نظري فعليه أن يستمر في قيادة تلك الجماهير على أن يحسن توظيف من ينجح فيها من شخصياتٍ أو برامج أو أفكار.

بالتأكيد فإنّ هذه النظرة لمواقع التواصل الاجتماعي وروّادها ليست قابلةً للتعميم، فيوجد في تلك المواقع نخب ٌمتعددةٌ، وفيها مواهب جديدةٌ لم تجد طريقها للإعلام من قبل.

لا أعتبر نفسي متابعاً جيداً لمواقع التواصل الاجتماعي مع حضوري في بعضها، ولكنني أستطيع الاستنتاج بسهولة أن من ترمّزهم هم في الأغلب من المعارضين للوضع القائم - أياً كان هذا الوضع- والمزايدين عليه بالشعارات فقط، ولذلك فإنّهم عند الواقع والمحك الحقيقي لا يملكون شيئاً يدعم ما يطرحونه فهم بلا رؤيةٍ متكاملةٍ ولا مشاريع علميةٍ ناجزةٍ، بل أكثر ما يجيدونه هو المعارضة الصاخبة لوجه المعارضة لا أكثر.

وللتذكير بدور البحث والثقافة والعلم فإن باحثاً دأب على بحثه أو مثقفاً رسخ في ثقافته أو عالماً جهد في علمه لا بد أن يجد في نفسه امتعاضاً لمستوى السطحية، فيما يكتبه كثير من رموز التواصل الاجتماعي الجدد، حيث لا بحث ولا ثقافة ولا علم عند التحقيق، ولكنّهم صاخبوا الصوت وعالوا العقيرة.

إنّ الصحافة بتاريخها العريق بحاجةٍ لدينا لقنواتٍ جادةٍ لنشر مفاهيمها وترسيخ تأثيرها آمل أن تكون قناة quot;سكاي نيوز عربيةquot; إحداها بعيداً عن اللغط والضوضاء المتفشية في هذه المرحلة من التاريخ العربي المضطرب.

أخيراً، ما أجمل عبارة هيغل حين قال إنّ quot;الصحيفة هي الصلاة المدنية الصباحية للإنسان الحديثquot;، أو عبارة توكفيل حين قال quot;إنّ الاعتقاد بأن الصحف لا تخدم إلا تأمين الحرية ينتقص من أهميتها، فهي تحافظ على الحضارةquot;.