مالك التريكي

عندما وصل اليسار الفرنسي إلى الحكم لأول مرة في عهد الجمهورية الخامسة، عام 1981، أصيب 'العالم الحر' بالفزع. فقد خاض ميتران الحملة الانتخابية متحالفا مع الشيوعيين، واعدا إياهم بحقائب وزارية في حال الفوز. فرت كثير من رؤوس الأموال من فرنسا إلى سويسرا!! وبلغ الهلع في واشنطن آنذاك حدا دفع بالرئيس رونالد ريغان إلى إرسال نائبه جورج بوش (الأب) إلى باريس عساه يجد ما يطمئنه أن فرنسا لن تسقط في منطقة النفوذ السوفييتي. وأتذكر أني رأيت بوش على التلفزيون (بمناسبة وفاة ميتران عام 1995) يروي كيف أنه قابل ميتران في باريس بعيد فوزه بالرئاسة وكيف أن مخاوفه سرعان ما تبددت عندما تأكد له أن فرنسا باقية على العهد الأطلسي راسخة في المعسكر الغربي.
أتى ميتران عامئذ بالجديد في مجال السياسة الخارجية عندما أعطى إشكالية الشمال والجنوب الأولوية على إشكالية الشرق والغرب، فاختار إسناد منصب وزارة الخارجية إلى كلود شيسون المعروف بتحمسه لقضايا العالم الثالث والتضامن الدولي. وعام 2007 أراد ساركوزي أن يجدد هو أيضا، في إطار انفتاحه المسرحي الاستعراضي على جميع القوى السياسية، بتعيين شخصية يسارية في وزارة الخارجية. انحصر السباق بين برنار كوشنير وبين هوبير فدرين الذي سبق أن تولى وزارة الخارجية في عهد ميتران. فزع اللوبي الصهيوني الفرنسي آنذاك أيما فزع من احتمال تعيين فدرين، هذا الدبلوماسي المحنك، الواقعي إلى حد جراحي، المغرد خارج سرب المتيّمين بإسرائيل المهووسين بأمنها وأمانها. ولهذا 'ناضل' اللوبي الصهيوني ضد احتمال مجيء فدرين، واحتفل (فعلا لا مجازا) عندما آل المنصب إلى كوشنير. وقد كان كوشنير جديرا بحسن ظن الصهاينة. لكن التاريخ سيذكر أن وزارة الخارجية بلغت في عهده دركا أسفل في التذبذب والتبعية لكبار مستشاري ساركوزي.
أما هذا العام، فإن السباق على وزارة الخارجية الفرنسية في صلب الحزب الاشتراكي قد انحصر، قبل فوز فرانسوا هولاند بالرئاسة، بين تيارين. الأول هو 'التيار الأطلسي الجديد' الذي يمثله بيار موسكوفيسي المقرب من جناح 'المحافظين الجدد' في دوائر الدبلوماسية الفرنسية. وهو الجناح المسؤول عن إخضاع فرنسا، أثناء حكم ساركوزي، إلى غلاة الليكود الإسرائيلي بشأن الملف النووي الإيراني. والتيار الثاني هو 'التيار الديغولي-الميتراني' الذي يمثله لوارن فابوس الذي سبق أن تولى رئاسة الحكومة في عهد ميتران والذي آل إليه منصب وزير الخارجية (رغم أنه كان من أشد منافسي هولاند). وهو تيار متمسك بتقاليد الدبلوماسية الفرنسية الحريصة على استقلاليتها إزاء الولايات المتحدة. إلا أنه يؤمن بضرورة الانحياز لباراك أوباما في مواقفه من إيران، وينادي بوجوب أن تظهر فرنسا استقلاليتها بشأن أفغانستان (الانسحاب المبكر قبل نهاية العام)، لكن دون المضي إلى حد إغضاب واشنطن. ولهذا فمن المؤكد أن مواقف فابوس ستكون أقل استجابة للرغبات الأمريكية مما كان الأمر في عهد ساركوزي، خصوصا في الشرق الأدنى.
وقد اتضح هذا المعنى عندما أسند فابوس رئاسة ديوانه لدنيس بيتون الخبير في شؤون العالم العربي وفي العلاقات الأوروبية الأمريكية. ومعروف عن فابوس أن له علاقات واسعة في الجزائر. ولهذا فمن غير المستبعد أن أول زيارة إفريقية سيقوم بها الرئيس هولاند قد تكون إلى الجزائر. ورغم أن أولويات سياسة هولاند الخارجية تتمثل في معالجة العلاقات مع أوروبا وأمريكا والصين (وهذا بالضبط مجال اختصاص مستشاره الدبلوماسي بول جان-أوريتز)، فإن من المتوقع أن تعكس هذه السياسة حقيقة سوسيولوجية هامة، هي أن معظم الفرنسيين المسلمين يصوتون لصالح الحزب الاشتراكي. كما أنها لا بد أن تعكس حقيقة سياسية هامة هي أن الحزب الاشتراكي قد ناصر الثورات الشعبية العربية منذ انطلاق شرارتها في تونس (حيث كان الحزب يقاطع نظام بن علي، خاصة في الأعوام الأخيرة، وشارك في المسعى الذي انتهى بطرد حزب بن علي من الاشتراكية الدولية، كما كان يرتبط قبل الثورة بعلاقات ثابتة مع القوى الديمقراطية التونسية).
إن لم يكن هنالك من جديد في السياسة الخارجية الفرنسية سوى العودة إلى الأصول، فسوف يكون ذلك عين التقدم.