أحمد غلوم بن علي

مما لا شك فيه أن التحولات السياسية في دول الربيع العربي انعكست بشكل واضح على واقع الإصلاح السياسي في الدول العربية الأخرى, وهو تأثير كان في مجمل بداياته إيجابيا من حيث تسارع النبض المعنوي وإعادة الروح في المجتمع, بيد أن التطور الدولي الذي أفرزه الربيع ودخول العالم بأسره في نزاع مواقع ونفوذ تمهيدا لشكل النظام الدولي المقبل عرقل ليس تجارب تلك الدول المنتفضة وإنما أيضا الدول التي تأثرت بها أيضا.
انفجار الوضع السياسي في دول الربيع العربي أنبأ بإمكانية تغير التوازنات الدولية القائمة, وبغض النظر عن نظريات المؤامرة التي بلا شك نعتقد ببعضها بيد أن الاحتجاجات العربية في عدد من بلدانها أنذرت بإمكانية تغير التوازن الاقليمي, وبالتالي الدولي الذي من الممكن أن يغير طبيعة النظام الدولي الذي أنتجه تفكك الدول السوفياتي عن الاتحاد بعد حرب باردة امتدت لعقود وبعد تحديث وتطوير هذا النظام الدولي الجديد في أعقاب أحداث الحادي عشر من سبتمبر, ولعل التخوف الذي كان واضحا في مقالات ومحللين الغرب واوروبا هو الخوف من امتداد القوى الممانعة على الخارطة العربية عبر مصر بشكل أساسي ثم الدول الربيعية الأخرى.
وهو ما يعني تحجيم السياسة quot;الامبرياليةquot; في المنطقة وإدخال لاعبين جدد في المنطقة (روسيا والصين بالاضافة إلى ايران بطبيعة الحال) يمهدون لتشكل نظام دولي جديد متعدد القطبية, لكن قدرة أميركا واتفاقها (على مضض) بصعود الاوروبيين الطامحين بدور رئيسي في المنطقة العربية جعل المنطقة بأسرها على صفيح ساخن بدأت ملامحه في ليبيا وتكشف في سورية بشكل أوضح.
هذا الصراع الدولي الذي يسبق تشكل ملامح النظام الدولي القادم لا ريب أنه أثر ولا يزال يؤثر بشكل واضح في التحولات الديمقراطية في المنطقة, وهو ما يدفعنا بالقول أن فرص تحول حقيقي في ظل مرحلة تشكل النظام الدولي ضئيلة, ولا يقتصر هذا على دول الربيع, وإنما أيضا على الدول التي تمارس الاصلاح السياسي السلمي.
وتجارب دول الاتحاد السوفياتي في مرحلة التفكك جلية, فالاستقطاب والصراع الدولي الذي يسبق أي نظام دولي جديد يجعل من ساحات الدول أمكنة صراع بالوكالة, وهو ما فعلته بالفعل في الدول المتحررة من الاتحاد, فالصراع الدولي أبقى دول كأوزبكستان وتركمانستان لعقود مثالا للأنظمة الديكتاتورية والاستبدادية , والصور الأوضح لانعكاس الصراعات الدولية كان في شرق اوروبا, فالاستقطاب الدولي الذي لا تزال آثاره باقية إلى هذا اليوم مزق كل من اوكرانيا وجورجيا على سبيل المثال, التي احتاجت هذه الدول إلى جولة انتفاضات أخرى لتخفيف وطأة, وآثار هذا الصراع الدولي على نظامها السياسي وهي الانتفاضات التي عرفت بالثورات الملونة بين عامي 2003 و 2005, ففي اوكرانيا ظلت أميركا وتابعيها الاوروبيين تدعم شيفتشنكو إلى أن هزمت يانوكوفيتش الروسي الهوى إلى أن اوصلته الحكومة في 2004 على طبول الاحتجاجات البرتقالية ثم أتى دور الروس إلى أن أسقطته في مشكلات سياسية واقتصادية انهكت البلد فسقط في انتخابات 2010, وهكذا كان الأمر في ثورة التيوليب في قرغيزستان عام 2005 بين آكاييف وباكييف المدعومين كل من جهة, وأيضا الوضع شبيه بما حدث في ثورة الروز في جورجيا عام 2003 التي اعتبرتها روسيا دوما فناءها الخلفي ولم ترض بالتدخل الغربي الأمر الذي تفجر في معارضة البرلمان الجورجي عام 2008 لرغبة اوسيتيا الجنوبية للانضمام الى روسيا وكانت حرب اوسيتيا في العام نفسه.
اثار هذه النزاعات التي لايزال بعضها باقيا في تلك الدول يعود أساسا إلى عام 1991 عام نهاية الحرب الباردة وتشكل النظام القطبي ولا يعني ذلك أن جميع دول شرق اوروبا والبلطيق تعاني من الأزمات نفسها وإنما الإشارة لتبيان تأثير التحول الدولي على التحولات الديمقراطية في الدول التي لم تستكمل ديمقراطياتها, وهو ما يحدث اليوم في مصر وليبيا واليمن وسورية التي شكلت هذه الأخيرة المواجهة المباشرة بين الطامحين للعب دور رئيسي في النظام الدولي المقبل.
إن أولى الأمور التي تعكسها تمخضات التحول الدولي على الوضع الديمقراطي هو اشتداد الاستقطاب الاقليمي (بنكهات متفرقة) في المجتمع وهو ما يخلق أزمات اجتماعية وسياسية كالطائفية والاثنية والايديولوجية, وما يقوم به أسياد النظام الدولي هو النفخ في النار أولا ثم تقليص الخيارات والبدائل السياسية حتى يتم تمكين المتحالفين معهم في السلطة أو من يمكن أن يتفاهم معهم.
هذه التحولات الدولية تدفع آسياد النظام الدولي أيضا لمنح صلاحيات لدول اقليمية قوية تقوم ببعض التوازن في ظل الانفلات الثوري في المنطقة, وهو ما يجعل الدول الصغيرة تعاني من اثار تلك التحولات الدولية, وايضا أثار التدخل الاقليمي في شؤونها فيكون جراء ذلك سلب الاستقرار السياسي وتعطيل أي اصلاح سياسي.
إن التحولات الدولية ستفضي بشكل مؤكد الى طبيعة النظام الدولي الجديد, وهو ما لا يمكن أن يتأتى إلا عبر حدث ضخم تكون آثاره كارثية على المنطقة.