محمد عياش الكبيسي

كان المؤتمر التاسع للنهضة التونسية الذي انعقد الأسبوع الماضي نقطة تحول مفصلية في تاريخ الحركة، حيث جاء في ظروف مختلفة تماما حيث تمكنت تونس من قيادة الربيع العربي الذي طال انتظاره لعقود طويلة، ثم دفع التونسيون بحركة النهضة لتكون في صدارة الربيع التونسي عبر انتخابات ديمقراطية عبر فيها الشعب التونسي عن ثقته المطلقة بنهضته وتقديره الوفي لجهادها وتضحياتها.
والنهضة بهذه النجاحات الكبيرة قد أصبحت تحت المجهر، فأداؤها الميداني وخطابها السياسي وجهدها العلائقي محط الأنظار والرصد والمتابعة.
لقد كنت واحدا من الذين يتابعون المؤتمر التاسع للنهضة باعتباره الصفحة الأوضح للاختبار والتقويم والعينة الأنسب للقياس والمقاربة.
لقد كان المؤتمر ناجحا في تطمين الشعب التونسي بكل توجهاته وأطيافه، وربما كان ناجحا في دعمه للقضية الفلسطينية من خلال المشاركة الفاعلة لخالد مشعل، لكن النهضة أثبتت أنها تعيش في عالمها وهمومها البعيدة عن هم الأمة الأكبر في معركتها المصيرية على أرض الشام والعراق والجزيرة والخليج.
وقد بدا الارتباك واضحا في هذا الملف، فبينما أظهر قادة النهضة تعاطفا قويا مع الثورة السورية أظهروا بالقدر نفسه ترحيبهم وتعاطفهم مع حزب الله!
من الواضح أن صورة حزب الله في ذهن النهضة ومخيلتها مختلفة تماما عن صورته في أذهان أهلهم وإخوانهم في المشرق العربي، وكان من المفروض أن تتعامل النهضة بحذر شديد مع حزب الله، وأن لا تعتمد على معلوماتها الذاتية والمنفصلة عن معلومات إخوانهم هنا.
نعم لقد تلقى المشرق العربي رسالة مزعجة من إخوانهم في تونس، فحزب الله هنا شريك فاعل في المذابح اليومية التي يتعرض لها الشعب السوري، هذه حقيقة لم تعد تنطلي على أحد، وهذا ما يفسر حالة الانقلاب المفاجئ في ثقافة الشعب السوري عامة، فبينما كانت صور حسن نصرالله تتصدر المحلات والبيوت والحافلات في كل المدن والقصبات السورية أصبح السوريون اليوم لا يطيقون سماع هذا الاسم، حيث كشف لهم عن وجه آخر بعد أن خلع عن وجهه قناع التقية السميك!
يا إخوتنا في النهضة كان بإمكانكم أن تتصلوا بأي تنسيقية سورية أو جماعة أو واجهة ليطلعونكم على تفاصيل الجرائم التي يقوم بها حزب الله!
كان بإمكانكم أيضا أن تتصلوا بإخوانكم في لبنان أو العراق أو البحرين ليقولوا لكم ماذا فعل حزب الله، وكيف تحالف جهارا نهارا ليس مع بشار الأسد فقط، وإنما مع من عاونوا الأميركان وخدموهم في احتلال العراق وتدميره، سلوا إخوانكم في بيروت وصيدا كيف دخلت ميليشيا حزب الله في المساجد بأسلحتها وهي تسب وتشتم أبا بكر وعمر وأمهات المؤمنين.
وإذا كنتم لا تحبون سماع الخلافات laquo;الطائفيةraquo; حتى لو كانت تستأصل عقيدتنا وهويتنا وتاريخنا، فانظروا في قواعد السياسة والكياسة فهل من المناسب أن تخسروا المشرق العربي أنظمة وشعوبا لتربحوا حزب الله؟ وما الذي تنتظرونه من هذا الحزب؟ هل سيقف معكم في مواجهة العدو الخارجي؟ لقد حاولنا قبلكم حينما كانت المقاومة العراقية تستعر بوجه المشروع الصهيوني الأميركي، ولقد طلبت في مقابلتي لحسن نصرالله أن تفتح قناة laquo;المنارraquo; شاشتها للعمليات البطولية في الفلوجة والأعظمية وديالى وسامراء ولحد هذه اللحظة لم نتلق جوابا من قادة laquo;المقاومة اللبنانيةraquo;، في حين كانت قناة الجزيرة فقط -وهي طبعا غير مصنفة على laquo;الإعلام المقاومraquo;- هي القناة الوحيدة التي تنشر عمليات المقاومة العراقية، لم تكتف laquo;المقاومة اللبنانيةraquo; بهذا الموقف السلبي من المقاومة العراقية، بل انتقلت إلى تحالف معلن مع البيت الشيعي، هذا البيت الذي لا يخفي تحالفه هو الآخر مع البيت الأبيض! وكان نتيجة هذا التحالف المشبوه محاصرة المقاومة العراقية واعتقال أبطالها ومطاردة رموزها، في الوقت الذي كانت فرصة أمام المسلمين في العالم لتغيير خارطة توازن القوى بعد انهيار الهيبة العسكرية الأميركية في الساحة العراقية.
أكلّ هذا معفو عنه لقاء إطلاق حزب الله لبعض صواريخه على الحدود الإسرائيلية؟
ربما يكون البحث في حقيقة الدوافع الصاروخية غير مجد، وستفسر تفسيرا طائفيا مما يفقدها المصداقية عند إخواننا في النهضة، ولكننا نكتفي هنا بدعوتهم لمتابعة تصريحات صبحي الطفيلي الأمين السابق لحزب الله قبل حسن نصرالله، الذي كشف فيها عن حقائق مخزية تخر لها الجبال.
لكن لنسأل إخوتنا في النهضة عن الصواريخ التي أطلقها صدام حسين على إسرائيل ودعمه اللامحدود للقضية الفلسطينية واحتضانه لعشرات الآلاف من الفلسطينيين الذين يتم الآن تهجيرهم بالقوة من العراق؟ لنسألهم عن حسني مبارك الطيار الذي أسهم بنفسه بضرب إسرائيل في حرب أكتوبر وتحت قيادة محمد أنور السادات الذي تمكن من عبور خط بارليف! لنسألهم عن النظام التونسي الذي احتضن المقاومة الفلسطينية بعد طردهم من لبنان بقوة السلاح إبان الحرب الطائفية؟
إذاً ليس مقبولا أن نقيس الأمور كلها بمنظار واحد خاصة أن منظار القضية الفلسطينية منظار غير صالح للقياس؛ بسبب كونه ورقة سياسية تستخدمها المشاريع السياسية المتناقضة، ولنتذكر هنا المنافسة الحادة بين الخميني وصدام حسين في استخدام هذه الورقة مع ما بينهما من صراع امتد إلى كل مفاصل الفكر والسياسة والأمن والاقتصاد..إلخ.
ولا يغرنكم هنا مواقف الفلسطينيين، فهم ليسوا الآن في ظرف يسمح لهم أن يكونوا مقياسا عادلا لسلوكيات الآخرين، فهم كالغريق الذي يتقبل النجدة من أي طرف جاءت، والصور التي توثق تحالفاتهم مع حزب الله والولي الفقيه لا تختلف عن تلك التي تجمعهم بحزب البعث وقياداته القومية والعلمانية!
ومن المناسب هنا أن نذكر إخواننا في المقاومة الفلسطينية أن كثيرا من المسلمين في العالم والذين تختلط عليهم المواقف السياسية بالمواقف الفكرية قد اضطربت توجهاتهم العامة وأصبحوا لا يمتلكون الحصانة الدينية والثقافية اللازمة، فالإعجاب السياسي عندهم لا ينفصل عن الإعجاب الثقافي، وبهذا تكون المقاومة الفلسطينية قد قدمت ما يشبه التزكية لثقافة غازية وهوية بديلة تصطدم مع كل معالم هويتنا من الكتاب والسنة إلى الرموز التاريخية كعمر بن الخطاب وصلاح الدين الأيوبي، حيث يعمل المشروع الصفوي لاستئصال هذه الهوية بكل أصولها ورموزها.
ولكي لا يكون الكلام نظريا يدور في دائرة الاحتمال أذكر هنا نموذجا قاسيا:
في لبنان تشكَّل حزب إسلامي سني تبنى المقاومة كخيار استراتيجي وكمعيار مركزي، وقد دعاني أمينه العام للقاء خاص، وإذا به يقول: إني غير مقتنع بكل التصنيفات المذهبية أو الطائفية إلا بتصنيف واحد وهو التصنيف على أساس المقاومة، وبما أن إيران هي الدولة الإسلامية الوحيدة التي تتبنى المقاومة فيجب على كل المسلمين في العالم أن يتنازلوا عن خصوصياتهم المذهبية ويلتحقوا بركب المقاومة الذي تقوده إيران، قلت له: ماذا فعلت أنت؟ قال: لقد ذهبت إلى الخامنئي وبايعته على هذا!
ربما يكون هذا الرجل مغررا به، وربما يكون نفعيا مصلحيا، ولكن طول الحوار معه أقنعني أننا نرتكب إثما غليظا حينما نستخدم بعض الشعارات السياسية من مثل laquo;لا فرق بين السنة والشيعةraquo; و laquo;إخوان سنة وشيعةraquo;، وحينما نفضل العلاقات الدبلوماسية على ثوابت الهوية وقطعيات الدين، مع التأكيد هنا أن التمايز في الهوية لا يعني غلق أبواب التحاور والتعايش السلمي بين شعوب الأرض ومكونات الوطن الواحد، بل ربما يكون التمايز في الهوية هو الأساس الأقوى للعقد الاجتماعي الذي يضمن الحقوق الكاملة لكل الأطراف، وليس هناك ما يستدعي الاحتراب والتنازع أكثر من الضبابية والغشاوة والنفاق السياسي الذي يخفي الطبيعة البشرية في الاختلاف والتنوع.
وعودا على بدء فإني أدعو إلى مزيد من التواصل بين جناحي الربيع العربي مشرقه ومغربه، وأن يكون هناك تكافؤ في المعلومات، ولا يغترن أحد بما عنده من العلم، فما أوتيتم من العلم إلا قليلا.