رشيد الخيّون

عندما وقفت على أطلال منطقة الدرعية بقلب نجد (ربيع 2010) أعدت إلى خاطري ما قرأته في كتب التَّاريخ عنها، وما حملته ذاكرتي ضدها بحكم البيئة التي أتيت منها. نظرت في الدعوة التي انطلقت منها بالزعامة الدينية مِن قبل الشَّيخ محمد بن عبد الوهاب (ت 1792) والزعامة السياسية من قِبل الأمير محمد بن سعود (ت 1765)، وصارت تلك المنطقة عاصمة (1744). شردت مفكراً كيف لهذه الأطلال أن تطلق خيلاً حاصرت بلداناً وأخضعت قبائلَ بغزوات متواصلة، تحمل راية quot;الإسلام النقيquot;، وقيل أول ضريح جرفته الدعوة هو لأخي الخليفة عمر بن الخطاب، الذي قُتل في حرب اليمامة (11 هـ)، وهذا يعطي مؤشراً أنها في تعارض مع المذاهب كافة، أوصل نجد أن تكون طاردة لغير مذهبها.

ظلت نجد تعيش في دائر تشددها الديني والمذهبي، وأنتجت مدارسها الدينية أجيالاً من المتشددين، إلى درجة أن علماءها استنكروا دخول المخترعات مِن الهاتف والسيارة والكهرباء (الوردي، لمحات اجتماعية)، كان quot;الإخوانquot; النَّجديون يريدونها فتوحات مستمرة إلى شرق وغرب العالم الإسلامي، فظهر التصدع في العلاقة بين الديني المتشدد والسياسي المنفتح، الذي يريد تأسيس دولة ويستحيل ذلك بلا صلات مع الغرب وما لديه من وسائل متطورة، الغرب المرفوض من قبل quot;الإخوانquot;، فكانت معركة روضة السبلة (30 مارس 1929)، وانتهى جيل مِن المتشددين، إلا أن التشدد الديني والمذهبي ظل قائماً.

لقد وصل الحال أن اعتبرت السيارة من عمل الشيطان، عندما صادف دخولها احتباس المطر وحدوث قحط (1921)، فأخذ العلماء ينصحون إمامهم عبد العزيز آل سعود (ت 1953) بالتخلص من الآفة الشريرة، وبعد معاناة اقتنع أحدهم بركوبها، والناس ينظرون باستغراب واستنكار، حتى ركبها بعده الآخرون وتكيفت نجد مع الآفة! ناقل هذه القصة تعلم في الكتاتيب مع الملك عبد العزيز ثم عمل معه، وهو هاشم الرِّفاعي (ت 1950) في كتابه quot;مِن ذكرياتيquot; (بغداد، مطبعة الرَّشيد 1939).

لم تجابه السَّيارة ولا بقية المخترعات تشدداً ببلدان أُخر مثلما جابهته بنجد، وببلدان قبلية مجاورة كانت السُّلطات تقف ضد دخول التقنيات، مسايرة لما يريده علماء الدين وما يخشونه مِن التحديث، لكن ما حصل بنجد كان العكس، السلطة تريد والناس يمتنعون، وقضية فتح محطة التلفزيون بالرياض مشهورة. فعلماء الدين وإن غضوا النظر ورأيهم هو طاعة ولي الأمر وتحريم الخروج عليه، إلا أن ولي الأمر هناك يكون في العديد من الأحوال على قلق كراكب الأسد من خطوة تحديث أو تجديد يخطوها. حتى تجمعت قوى التشدد القديم، الذي كان طاغياً قبل معركة السبلة، ليظهر من جديد في حركة quot;الجماعة السلفية المحتسبةquot;، والتي أسفرت عن احتلال الحرم المكي (نوفمبر 1979)، وحينها أعلنت عن ظهور المهدي المنتظر، حسب الاعتقاد السني (الحزيمي، أيام مع جهيمان).

لكن ما حصل أن قضي على الحركة بينما شاعت أفكارها، في تحجيم التحديث الذي حصل بنجد، فقيل لي إن ثمة دار سينما كانت بالرياض وبجدة من أمثالها في السبعينيات، وانفتاح ظاهر أخذ يتسرب إلى نجد، ولعل ذلك التحديث، من وجود محطة تلفزيون وإذاعة وبعثات التعليم من أسباب وجود المحتسبة، التي كنا ننظر إلى زعيمها جهيمان كنظرتنا إلى جيفارا (قُتل 1967)، فأحد شعرائنا التقدميين ألقى قصيدة: quot;يا جهيمان حدق...quot;! من دون علمنا أن جهيمان هذا سيحرق الأخضر قبل اليابس، وإن حظي بشاعرنا لكان أول المقتولين على يده!

على أية حال، أردت مما تقدم الوصول إلى معنى أن تنطلق دعوة الحوار بين المذاهب من نجد بالذات، نجد الطاردة للاختلاف والمتكورة على مقالتها المذهبية في ما مضى. معنى أن تتبنى تلك الدعوة، في زمن طغت فيه العصبية المذهبية، وأن يكون المبادر هو الملك عبدالله بن عبد العزيز، وأن تكون الرياض داراً للحوار! قريباً من الدرعية! لا يعرف قيمة مثل هذه المبادرة إلا من قرأ تاريخ نجد بتمعن، ووقف على الصعوبات التي تواجه كل نسمة انفتاح.

فقبل هذا في (مارس 2009) أعيد تشكيل هيئة كبار العلماء لتشمل المذاهب الأربعة، بوجود ممثلين عن المذهب الشَّافعي والحنفي والمالكي إلى جانب الحنبلي، وقد عُدت تلك الخطوة مهمة في دعم التَّعايش، مع علمنا ليس من تباعد بين المذاهب السُّنية الأربعة، وإن وجد اختلاف في الفروع لا الأُصول. كذلك اعتبر تعيين امرأة كنائبة وزير، وتأسيس جامعة مختلطة خطوتين هائلتين، عارضهما علماء دين لكنهما نفذتا، وإعلان حوار الأديان ومِن أرض نجد قربت المسافات، فقبل تحريم التعرض لبقية الأديان، وهي خطوة بالنسبة لنجد تعتبر جبارة، كان خطباء المساجد يحشرون في أدعيتهم ما يلغي فكرة الحوار والدعوة إليه.

قد لا تسترعي الدَّعوة إلى الحوار بين المذاهب الالتفات إذا صدرت من القاهرة أو بغداد أو طهران أو اسطنبول وغيرها من العواصم، لأن تلك الحواضر اعتادت على الاختلاط الديني والمذهبي، ولأن علماءها والمتدينين فيها تطبعوا على التجاور بالمكان. ففي عام 1931 عُقد مؤتمر إسلامي بالقدس، أَمَّ المصلين فيه، مِن العلماء السنة والشيعة، النجفي محمد حسين كاشف الغطاء (ت 1954)، وأن الأزهر ومرجعيتي النَّجف وقم تبنت في الأربعينيات والخمسينيات من القرن الماضي، مبادرات للتقريب بين المذاهب، وهذا ما نحاول رصده في المقال القادم.

لكن نجد ليست كالبلدان المذكورة، يواجه الداعين إلى الحوار بين المذاهب فيها تاريخ متراكم من التشدد، فالحوار بطبيعته يحتم الاعتراف والشفافية والاختلاط بين علماء سنة وشيعة، والحوار وجهاً لوجه غير الحوار عبر الرسائل والكتب، وسيُحرج المتعصبين من الأطراف كافة، الذين لا يفهمون أن الدنيا قد تغيرت، وصارت quot;الصين أدنى وأقربquot;. هذا ما أشار إليه الكاتب السعودي صالح عبد الرحمن المانع في ما كتب عن دعوة الملك عبدالله بن عبد العزيز: أن الحوار quot;سيجعل المتنطعين والمتطرفين فيها أقرب إلى العزل منهم إلى القبول برئاستهم، وانقياد العامة إلى آرائهم والنزوع إلى القبول بطروحاتهمquot; (الاتحاد 20 أغسطس 2012).

قبل الحكم على أهمية دعوة الحوار بين المذاهب مِن نجد، اقرأوا تاريخ هذه البلاد، ستشعرون بمعاناة من أدخل السيارة إليها، ومن نوى تأسيس دار للحوار بين المذاهب على أرضها.