عبدالله إسكندر

تنزلق فرنسا شيئاً فشيئاً نحو تدخل عسكري واسع في مالي، حيث تمكَّن أصوليون إسلاميون عملياً من اقتطاع شمال هذا البلد والسيطرة عليه. وترافقت هذه السيطرة مع أزمة سياسية كبيرة في البلاد، بدأت بانقلاب عسكري واستمرت رغم وساطات أفريقية عدة. وبدا في الأسابيع الماضية أنه بعد هزيمة الجيش المالي في الشمال، باتت الوحدة الجغرافية مهددة، بما يتيح للأصوليين توسيع نفوذهم نحو الجنوب.

وكانت فرنسا أول من دعا إلى تحرك من أجل محاصرة النفوذ الأصولي ومنعه من التمدد ومن ثم القضاء عليه. تحركت لدى الدول الأفريقية المعنية، خصوصا الجزائر، وتحركت في الأمم المتحدة من أجل انتزاع قرار التدخل العسكري. واستبقت باريس وصول القوات الأفريقية التي يفترض أن تتصدى للإسلاميين ببدء عمليات جوية وإرسال مزيد من القوات البرية يبدو أن عددها مرشح للارتفاع مع توسع المعارك والمقاومة التي يبديها الإسلاميون.

هذا التدخل الفرنسي جرى تبريره بمساعدة الحكومة المالية التي طالبت به، وبمنع قيام منطقة آمنة للأصوليين في شمال مالي ينطلقون منها إلى الجوار وأوروبا. لكنه في الواقع يتعلق بالمصالح الفرنسية العليا في هذا الجزء من أفريقيا، فأي نظرة إلى الخريطة توضح حجم هذه المصالح الفرنسية في بلدان الجوار المالي. ولعل أهمها في النيجر، شرق مالي، حيث تستثمر فرنسا أهم مناجم اليورانيوم، عماد صناعتها الحديثة وقوتها الضاربة. وحيث تحداها الأصوليون بخطف عاملين فرنسيين في هذه المناجم، وما زال هؤلاء رهائن لدى الإسلاميين.

كما تهدد السيطرة الإسلامية على شمال مالي الجزائرَ في حدودها الجنوبية وموريتانيا في حدودها الشرقية. ومعلوم أن هذين البلدين منخرطان في معركة ضد هؤلاء الإرهابيين الذي راحوا يتجمعون في شمال مالي هرباً من الملاحقة من القوات الجزائرية والموريتانية، ما يعني أن العملية تتضمن أيضاً السعي إلى الحفاظ على المصالح المتعددة الفرنسية في البلدين، إضافة إلى أن النفوذ الفرنسي هو الأكثر تأثيراً في البلدان الأخرى المجاورة لمالي، خصوصاً السنغال وساحل العاج.

في هذا المعنى، تأخذ العملية الفرنسية في مالي طابعاً حيوياً جداً بالنسبة إلى باريس، بعدما باتت سيطرة الأصوليين الإسلاميين على شمال مالي تهدد المصالح الاستراتيجية الفرنسية في أفريقيا وراء الصحراء.

في موازاة هذا التهديد، تخشى البلدان الأوروبية، ومنها فرنسا، من تحول أي منطقة قريبة من حدودها إلى ملاذ آمن للإرهاب. خصوصاً أن البلدان الأوروبية تظل الهدف المستمر للحركات الأصولية التي نفذت في السابق عمليات إرهابية كبيرة على أراضي القارة القديمة وما تزال. ويأتي الاستهداف الأوروبي لهذا الملاذ في شمال مالي كخطوة استباقية في الحرب على الإرهاب.

وإذ قدمت بلدان أوروبية مساعدات لوجستية للعملية الفرنسية، فإن أياً من البلدان الأوروبية الأخرى، خصوصاً بريطانيا وإيطاليا وألمانيا، ليست في وارد التورط العسكري، ناهيك عن عوائق قانونية ودستورية أخرى وقلة الإمكانات العسكرية المتوافرة لدى فرنسا في أفريقيا، خصوصا قواتها الجوية المنتشرة في بلدان مجاورة لمالي.

هكذا دفع العزم لدى باريس على حماية مصالحها الجيوإستراتيجية مع توافر قدراتها العسكرية من أجل أن تكون رأس الحربة في هذه الحرب.

لكن مثل كل الحروب من هذا النوع، قد تتطور عملية عسكرية يفترض أن تكون محدودة ولأغراض معينة، إلى تورط عسكري واسع ومتزايد، فهل يمكن فرنسا أن تتحمل أعباء مثل هذه الحرب الجديدة؟