محمد كريشان


ما الذي يجري بالضبط داخل حركة lsquo;النهضةrsquo; التونسية؟! هناك مشكلة بالتأكيد مهما قـُـدّم من تفسيرات أو تبريرات. بالكاد مر يوم واحد فقط على توقيع زعيم الحركة راشد الغنوشي السبت الماضي على المبادرة التي على أساسها انطلق الحوار الوطني في البلاد بعد أزمة خانقة، حتى أصدر lsquo;مجلس شورىrsquo; الحركة في نهاية اجتماع طارىء بيانا نسف فيه عمليا هذا التوقيع. حدث ذلك من خلال ثماني نقاط أوردها هذا البيان تؤكد بالخصوص على استمرار المجلس الوطني التأسيسي (برلمان المرحلة الانتقالية) بصلاحياته كاملة إلى حين انتخاب برلمان جديد ومواصلة الحكومة الحالية أعمالها.
هذا الكلام يعني ببساطة شديدة تراجع الحركة عما التزم به رئيسها أمام الأشهاد من قبول استقالة الحكومة الحالية خلال ثلاثة أسابيع واستكمال مهام المجلس التأسيسي في غضون أربعة أسابيع، وفق ما جاء في خارطة الطريق التي قدمها رباعي الوساطة (اتحاد نقابات العمال، اتحاد نقابات أرباب العمل، رابطة حقوق الإنسان وهيئة المحامين) ووافقت عليها معظم الأحزاب السياسية التونسية الممثلة في المجلس التأسيسي. مع ذلك، ها هو الغنوشي يحاول lsquo;ترقيعprime; ما يصعب ترقيعه في الحقيقة بالقول إن بيان مجلس الشورى لا يتناقض مع قبول الحركة بخارطة الطريق التي وقـّعها هو شخصيا.


هذه ليست المرة الأولى، على كل حال، التي نرى فيها زعيم الحركة في موقف غير مريح وحتى محرج داخل حركته . وصل الأمر أحيانا ببعض وجوه هذه الحركة البارزين، من الجيل المؤسس أو الشاب، إلى حد التصريح علنا أن كلام الغنوشي في هذه المسألة أو تلك لا يلزم الحركة بالضرورة، أو أن ما قاله يمثل رأيه الشخصي وأن للحركة هياكلها القيادية المعبرة عن مواقفها الرسمية!!
هنا تتعدد التفسيرات وردود الفعل، فمن مسارع إلى القول إن ما يجرى يؤكد من جديد لعب الحركة المتواصل على أكثر من حبل، إلى آخر لا يرى فيه سوى توزيع للأدوار لمزيد كسب الوقت، إلى من يعتقد أن ما يلزم حركة lsquo;النهضةrsquo; رسميا في النهاية هو توقيع رئيسها على وثيقة lsquo;خارطة الطريقrsquo; وليس البيانات الصادرة عن هياكلها التي تبقى شيئا حزبيا داخليا، إلى غير ذلك من القراءات أو التأويلات، بعضها إتهامي باستمرار وبعضها الآخر يحاول فهم ما يجري حقيقة داخل هذه الحركة من تفاعلات وتجاذبات وحتى صراعات.
بداية لم يكن من السهل على الإطلاق على حركة عاشت لسنوات ملاحقة مقموعة، قياديوها إما في المنافي أو السجون أو تحت رقابة إدارية وأمنية لا تطاق، أن تجد نفسها فجأة تتحمل وزر حكم تونس دون تجربة سابقة ولا شخصيات محنكة. وكان لهذا lsquo;الإصطدامrsquo; بالحكم ارتداداته المستمرة حتى الآن خاصة وأن الحركة تشقها أجيال وتيارات. البعض لم يعرف سوى التخفي أو الزنازين الانفرادية فظل أسير دوغمائية تربى عليها ولم تزدها المعاناة إلا رسوخا، الآخر عاش في الخارج فأثرى معرفته وعلاقاته، البعض لم يعرف بعد تجربته الطلابية سوى السجن فخرج منه وهو ما زال يحمل النفس الطلابي في عالم تجاوز تلك المراهقة، الآخر اختلط بعائلات سياسية مختلفة وأوساط حقوقية فنسّب قناعاته في كل شيء مقابل آخرين لا يرون أنفسهم إلا مهتدين على الدوام وبتفويض إلهي مفتوح hellip; وهكذا.


بين كل هؤلاء يتحرك راشد الغنوشي. تراه أحيانا يميل إلى هؤلاء وتارة إلى أولئك. هو أحيانا براغماتي مرن بامتياز وأحيانا أخرى متشدد مخيف. بعض المقربين منه يرونه، مع ذلك أو بسببه ربما، الضامن الوحيد لاستمرار الحركة موحّـدة، فيما لا يتردد آخرون إلى دعوته إلى ترك السياسة والتفرغ إلى الدعوة التي يجيدها أفضل من غيرها . ثم إن الغنوشي مدعو أيضا إلى محاولة التوفيق الدائمة بين رفاقه القدامى والجيل الجديد مع الأخذ بعين الاعتبار القواعد الشعبية للحركة التي يصفها كثيرون بأنها في معظمها متشددة وحتى سلفية . بات الغنوشي مدعوا مؤخرا إلى محاولة lsquo;إدارة الخوفrsquo; الذي بدأ يدب تدريجيا في صفوف أبناء الحركة من إمكانية انقلاب الأمور عليهم وعودتهم إلى السجون ثانية كما حصل في مصر. المشكلة أن هؤلاء كلما خافوا أكثر خاف منهم المجتمع أكثر. لهذا وغيره، لا حل للحركة إلا بتحصين نفسها وإنضاجها أكثر بالسعي الدائم إلى التوافق مع بقية الفرقاء السياسيين وتجنب التقوقع أو استمراء العودة إلى منطق الضحية وما يسببه ذلك من جنوح إلى التطرف. من هنا فالحوار الوطني الجاري حاليا هو بوابة الخلاص لتونس وللجميع، النهضة وغيرها كذلك، فهؤلاء ليسوا في النهاية بأفضل حال منها، وإن كان لاعتبارات أخرى مختلفة.